صدى الأسطورة في عمارة المدن السورية التاريخية
(معلولا نموذجاً)
ارتبطت الأصول الأولى للعمارة بالمنفعة والحاجة، التي تقدمها للإنسان على اختلاف أنواعها ومواضيعها، فقد تفصح الحجارة عن روايات إنشاء لمستوطنة حضارية، مثل أيقونة تنغلق على جوانية، تفيض رؤى روحانية، لتصبح عبر تراكم مرحلي للزمن، أسطورة أسست مدينة أو مدينة أسطورة. ذكرالمؤرخ الروماني “بليني” ملاحظة جديرة بالاعتبار وهي “الينابيع المعدنية في الجزيرة العربية تصنع المدن وتخلق الآلهة”[1].
فهل تحرس الأساطير المدن؟ أم المدن تحفظ الأساطير؟..وهل نستطيع اعتبار الأسطورة مؤسسة للمدينة أو هو تبادل قيمي بين المدينة والأسطورة؟.. أشكلت على الباحثين ثلاثة مصطلحات هي( الحضارة والمدينة والثقافة)، “قالوا إن الحضارة والمدينة، يغلب عليهما معنى واحد، فهما يغلبان الجانب المادي من التراث، ولايمكن الفصل بينهما، لأنهما يشتملان على المظاهر المادية والمعنوية معاً، ولهما صفة التراكم، ولهما صفة التوريث من جيل إلى آخر كالصناعة أوالتقنية التي هي في تقدم دائم وكل جيل يضيف خبرته إلى خبرة الجيل السابق، وللحضارة بهذا المعنى قابلية الانتشار والاتساع في الزمان والمكان”[2]. كما نرى هذا التوريث يمتد إلى جسد الأسطورة أيضاً كمعطى ميتافيزيقي، ومظهراً من مظاهر الحضارة. فهل يساهم ذلك في فهم المدينة بالنسبة للآثاري والمعماري. وهل تؤثر الأسطورة على الجانب العلمي للأبحاث عن المدن التاريخية.؟ وإلى أي حد يعتمد علماء الآثار على الأساطير؟.. ” إن الفرضيات المؤسسة على تفسير الأساطير القديمة، خطرة بالنسبة لعالم الآثار، لأنه يرفضها، في حين أن تاريخ الديانات، يستغني عن بعض المعطيات الموضوعية، ويكمل سرد الأسطورة ويقبل صيرورتها وتشكلها”[3] . وفي كثير من الأحيان يكون منطلق البحث الآثاري أسطورة ما.
يقول جوزيف كامبل “يوجد ثلاث مراكز لما يمكن أن يسمى بالإبداع الأسطوري،الأول هو الكاتدرائية، وهو مرتبط بالصوامع والأديرة”[4]. والثاني هو القلعة. والثالث هو الكوخ حيث يوجد الناس.
يأخذنا البحث عن المدينة والأسطورة إلى مدينة “معلولا” السورية المحفورة في الصخر، والتي تأسست بناءً على أسطورة دينية أبدية الوجود، لأنها مازالت تمارس الطقوس ذاتها في المكان ذاته، مع وجود شواهد مادية على حضور الأسطوري، فهي مدينة تجمع التاريخي والديني والفني والأسطوري، كحدث قديم – حديث، نرى فيها جبل منشق وماء مقدس وغرف العزلة وكنيسة يحتضنها جبل في حنو يحفظ طهارتها، وهي تشبه المتاهة في تكوينها وهذا ما جعلها بعيدة عن الإندثار. تعني كلمة معلولا “المدخل” باللغة الآرامية الحديثة أي السريانية،( وهي اللغة التي يخاطب فيها المسيح تلاميذه)، وسبب التسمية ربما للدلالة على الممر الموجود تحت الأرض وبين الجبال ، وهو ممراً طويلاً نسبياً، يجعلك تلج عوالم السحر والغموض والأسرار، حول مبانيها وصخورها ومغاورها، بل وحول مسالك المياه فيها. تقع معلولا على بعد 50كم شمال دمشق على ارتفاع يزيد عن 1500 متر. وهي مدينة محصنة تحصيناً طبيعياً، لأنها قرية مبنية داخل وبين الجبال، وبيوتها متأقلمة مع شكل الجبل الذي بنيت فيه، والأزقة فيها ضيقة ، يتم التنقل فيها مشياً على الأقدام عبر مدرجات محفورة في الصخر، كما توجد فيها كنيستين من أقدم كنائس العالم، إحداها محفورة داخل ركن جبلي، بالإضافة لأماكن العبادة المنتشرة على سفوح الجبال.
تقبع الأسطورة في كل أركان بلدة معلولا، فكل حجر فيها يروي حكاية، كما أن تكوينها التصاعدي ومخابئها، يجعلها موطنا للأساطير التي سنورد بعضها باختصار شديد.
ساهمت أسطورة القديسة (تقلا) في نسج الأسطورة الأم لهذه البلدة، والتي سيتأثر الفضاء المعماري الناتج عن تجاوب الطبيعة بها لتظهر معلولا وطرقها وبيوتها على الشكل الذي نعرفه. “تروي الأسطورة أنّ القدّيسة تقلا سليلة عائلة وثنيّة نبيلة من منطقة القلمون. لكنّها أرادت اعتناق المسيحيّة، ففسخت خطوبتها، التي دبّرها والدها مع رجل وثنيّ، وهي في الثامنة عشرة من عمرها، ثمّ هربت من منزل ذويها. وتروي الحكاية، الأكثر شهرة، أنّ الجنود الرومان الذين سعوا وراءها لقتلها، كادوا يقبضون عليها عندما بلغت السلسلة الثالثة من جبال القلمون. وعندما اقتربت من معلولا وجدت الطريق مسدودًا بمرتفع صخريّ شاهق، ولكن ما إن طلبت رحمة الله، حتّى انشقّ الجبل بأعجوبة، فاستطاعت أن تعبر إلى المغارة التي عاشت فيها بقيّة حياتها”[5].
داخل هذا المخبأ، حفرت القدّيسة تقلا الينبوع، الذي يقال إنّ مياهه تبرىء المشلول وأمراض المفاصل والعقم. عاشت هذه القدّيسة، سنوات عدّة في المغارة، وكانت تشفي المرضى وتبشّر بالإيمان المسيحيّ، حتّى توفّيت وهي في سنّ التسعين. وما زالت آثارها ماثلة إلى الآن يأتي إليها العباد من كل الأديان ليقوموا بالنذر وتقديم بعض الهبات.
و ما تزال آثار قدمي القديسة تقلا محفورتين في الجبل، وأمامه الحقل الذي توقفت فيه القديسة نفسها لتستريح من جند أبيها، وتحدثت إلى فلاح يحرث الأرض، فرجته ليساعدها على النجاة من مطارديها، بأن يقول لهم أنها مرت به وقت كان يفلح الحقل.. وقد فعل فلما رأى الجند سنابل القمح تغطي الحقل بكامله، ونمت بأعجوبة أيقنوا أنها سبقتهم منذ زمن طويل، ويئسوا من العثور عليها، فبادروا إلى العودة.
الخلاصة
تجيب الأسطورة في كل مرة عن سؤال الغرابة والرهبة للمعطى المكاني ( المدينة التاريخية)، لتعطي تبريرات التكوين والنشأة، فالأسطورة مفاتيح الروح وقد تجلت ماديتها مدناً، كالرمز الذي يواري ويفصح، ” فأعظم شيء يحظى بأكبر جانب من التقدير في هذه المجتمعات هو الأمس الأبدي على حد قول شيلر”[6].
” نستطيع أن نعلم أنفسنا بالشعور بالماضي، بعد ذلك تنطلق انفعالات التعاطف في داخلنا حتى لنجد في وعينا الخاص الخيوط الأولى التي تربط الأزمنة الماضية بالأزمنة الحديثة”[7].
وهكذا تعتبر المدن نوافذ التاريخ.
المراجع
[1] – الحمد محمد عبد الحمبد: حضارة طريق التوابل،ص13.
[2] – الحمد محمد عبد الحميد: حضارة طريق التوابل، ص49، منشورات وزارة الثقافة، الجمهورية العربية السورية.
[3] – الحمد محمد عبد الحميد: حضارة طريق التوابل،ص15.
[4] – كامبل جوزيف: قوة الأسطورة، ترجمة حسن صقر وميساء صقر،ص93.
[5] – موقع بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأورثوزكس.
[6] – كاسيرر أرنست، الدولة والأسطورة، ترجمة أحمد حمدي محمود، أحمد خاكي،ص105. القاهرة 1975.
[7] -كاسيرر أرنست: اللغة والأسطورة، ترجمة سعيد الغانمي،ص49. أبو ظبي الإمارات، ط1، 2009.هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.