تعتبر الحروفية تحول أسلوبي لرسم الحرف العربي باتجاه المعاصرة

نستحضر فيما يلي مقولتين من زمنين وعالمين مختلفين :

قال ملك الروم في عهد الخليفة المعتمد بالله: ما رأيت للعرب مثل هذا ولا أحسدهم على شيء مثل حسدي على جمال حروفهم.

أما بيكاسو فقد صرح: كلما توصلت إلى اكتشاف في التجريد إلا ووجدت الخطاطين العرب قد سبقوني إليه منذ أمد بعيد.

بول كلي : استنشق روح الجمال من الكتابات العربية.

  نعلم جيداً أن درس الفنون الإسلامية قد أشبع بحثاً، لكننا في زمن مغاير يطرح تساؤلاته في كنه التحولات الراهنة وفي ظل نظريات جمالية وفلسفات لا نستطيع نكران تأثيرها الواضح على ( الصنائع التراثية) او ما نسميه ب(فنون التراث الإسلامي). وهو مصطلح حديث نسبياً لأن عبارة(فن وفنان) لم تكن مدرجة في عالم الفن، وهي من اكتشافات عصر النهضة، وإذا وجدت في المباحث التراثية الإسلامية (العربية والإستشراقية) فهي للدلالة على الإتقان والمهارة، لما للجانب الوظيفي من قيمة حيث لم يكن الجانب الجمالي هاجساً.

يسعى منتجو الصنائع والفنون التراثية المعاصرين إلى عدم فقدان الهوية والأصالة في ظل هذا التأثير والإسقاطات المصاحبة لطوفان التفوق الغربي والهوة المعرفية من خلال الحفاظ على تمثلات الفنون التراثية الحضارية الأصيلة، ما يضع الفنان  المسلم( العربي) أمام تحديات ضغط الموروث التراثي وتطلعاته إلى المعاصرة، بمعنى آخر(العالمية، النطاق العربي) فهل يقوم بإنتاج رموزه التراثية بالأدوات والمواد ذاتها ويقع في المحاكاة أو ينتجها بأدوات وتقنيات معاصرة وبالتالي يحق لنا طرح السؤال التالي: هل تبدل التكنولوجيا المعاصرة الهوية التراثية للفنون الإسلامية التي أنتجت في فترات زمنية سابقة يدوياً؟…

تقول الفيلسوفة آن كولين ( أن اعتماد الفن المعاصر على التكنولوجيا وتخص تكنولوجيا الاتصال شوش على الفنون الجميلة التقليدية). حيث يصبح الفنان والمتلقي والمنتوج ثلاثية غير متفاعلة، لانرى أثر الفنان في المنتوج ، حيث تنتهي هذه العلاقة وكذلك المتلقي فاقد الصلة بالفنان والمنتوج. وهل استخدام التكنولوجيا المعاصرة تجعل هذا الفن معاصراً، أم تنتج فناً هجيناً؟….

إن سؤال المعاصرة يتطلب بحثاُ جمالياً يراجع بعض المقولات المتداولة عن الفن الإسلامي والتي يطرب لها الباحثون المسارعون إلى أخذ النتائج والأحكام الجاهزة. مثال على ذلك أقوال بعض المستشرقين مثل( ألكسندر بابا دوبولو) والذي يستنتج أسبقية الفن الإسلامي إلى التجريد نسبة إلى الفن الغربي بسبعة قرون.. وذلك من خلال دراسة معمقة للمنمنمات الإسلامية ومقارنتها بالمنمنمات المسيحية واليهودية والبيزنطية لنخلص إلى نتيجة قد تكون مبطنة أن الفن الإسلامي هو وسيط أو نتيجة لتطور تجارب فنية لأمم أخرى( ونحن لا نتهم المستشرق لأن غالب دراساتنا عن الفنون الإسلامية كانت نتيجة تأمل ومناقشة أعمال المستشرقين إلى درجة تبني افكارهم) ، ولكننا ننبه أن الفن الإسلامي قد استطاع بناء شخصية فنية مستقلة، والمثال الذي يمثل نقلة نوعية نستطيع ان نأخذه بالدرس هو ( الخط العربي)، الذي تحيلنا تمثلاته إلى الصنعة حيث يعتبره ابن خلدون صناعة مثل الصناعات الأخرى، وطبيعته كحرفة يدوية يتطلب مهارة  وتعلم ولكنه صنفه من بين أمهات الصنائع وهي ترف أقصى فالناحية الجمالية عند ابن خلدون عبارة عن ترف…. لأن التجلي الأعلى للفن في المخيال العربي السائد يومذاك هو فن الخط.

أما أبو حيان التوحيدي فقد كتب في رسالته ( علم الكتابة) عن جمالية الخط وتقنية العربي، فهو قد امتهن الوراقة وكان خطاطاً مشهوراً، عدد أنواعاً للخط الكوفي (الاسماعيلي، المكي، الأندلسي، العراقي، العباسي، البغدادي، المشعب والريحاني والمجرد والمصري) وهي خطوط مستنبطة مرت بالصحابة حتى اتصلت بابن مقلة وياقوت وغيرهم… وهم تفننوا بها واجتهدوا وابتكروا أساليبهم الجمالية في رسم الحرف العربي. وهنا نقف عند كلمة اجتهدوا لأن فيها كثير من التصرف وبالتالي التفنن، (ووضع ابو حيان التوحيدي شروطاً لجمالية الخط العربي ولم يتحدث عن خط بعينه، أي إمكانية التصرف بشكل الحرف بالإضافة إلى إشارته إلى موهبة الخطاط ذو القريحة العذبة)، الإبداع والتجديد الذي أدى إلى ظهور أساليب، والأسلوب حسب لسان العرب:

 يقال للسطر من التخيل أسلوب، وكل طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب الطريق والوجه والمذهب ويُجمع أساليب، والأسلوب بالضم ( الفن) يقال أخذ فلان في أساليب القول أي أفانين منه.

أما الأسلوبية فيعرفها (شارل باللي وهو لغوي سويسري) بأنها دراسة قضايا للتعبير عن قضايا الإحساس، والأسلوبية تتمثل في جرد الإمكانيات والطاقات التعبيرية للغة ، إذاً فهي بعبارة أخرى، تحمل شحنة تعبيرية خاصة، والأسلوب تفاعل جامد بين العناصر(كما في مختبر الكيمياء).

مليكة أكزيناي، المغرب
خولة قلعةجي ، سوريا
نجا المهداوي ، تونس

هنا نعود إلى مقاربة قديمة حديثة وظاهرة منتشرة فيها كثير من الحرية وكثير من الدرس وهي ظاهرة الحروفية العربية، التي أنتجت معطى بصرياً تشكيلياً، ضمن سياق البحث التجريدي الغربي، وهو ما يوحي بممارسة بصرية معاصرة، أو مابعد حداثية  نتيجة التحليل والتفكيك وإعادة  التركيب في تشكيلات جمالية قد أخرجته من ميدان الحرفة إلى التأمل الجمالي البحت.. بحثاُ عن الشحنة الدلالية والرمزية للعلامة الخطية في أبعادها الروحانية،.و بالتالي إن قلنا علامة خطية رجعنا إلى الهيكل الهندسي و الرياضي في كيفية بناء شكل العلامة. فيمكن تعريفها بكونها العماد الأساسي بالنسبة للخط المرتكز علي فضاء مسطح “طول و عرض”كما يظهر الخط في أربعة أبعاد طول وعرض و ارتفاع و حركة في نفس الوقت……… والنقطة تمثل علامة البداية و النهاية في التشكيل وتعتبر هذه العلامة من أهم العناصر التشكيلية للخط كما يقول كاندنسكي في هذا الشأن ” الخط الهندسي هو كيان غير مرئي انه نقطة في حركة اي نتيجة لها .انه يولد من الحركة بإلغاء السكونية الأصلية للنقطة

إن شكل العلامة مشبعاً حسياً من قبل الفنان، لكي يكتمل البعد الاستيطيقي للعمل من حيث استلهام الخط دون اهتمامه بمعناه اللغوي وقد غابت القواعد الكتابية للخط. فقد ذهب إلى دراسة جوهر الخط و العلامة من الناحية التشكيلية و كيفية توظيفها على سطح العمل . سعياً منه إلى البعد الصوفي عندما يتحول الخط إلى علامة خطية، مثال( الأناشيد الصوفية التي تعتمد التكرار المستمر لكلمة إلى ان تغيب وتختزل في حرف نتيجة الانغماس والتوحد مع الحالة الطقسية الممارسة)، وقد اختلفت طريقة التعامل مع العلامة من فنان إلى أخر فبقي مقروء لدى بعض الفنانين و تحول إلى مفردة تشكيلية لدي الأخر.

 لنا في ذلك أمثلة كثيرة من الخطاطين الفنانين العرب..( نجا المهداوي، ضياء العزاوي، محجوب بن بللا، محمد المليحي).

إذاً يدفع سؤال المعاصرة إلى إعادة النظر بالذات كما بالآخر( الغرب )وهو سؤال يدفع إلى مآل مستقبلي، فالفنانون العرب انطلقوا في أعمالهم وفقاً لاختيارات أسلوبية وتجارب فردية  معزولة عن السياق العام الفني، بالإضافة إلى غياب منهج نقدي جمالي يقيم التجربة.

نتائج:

  • إن الاهتمام بالجماليات أدى إلى غياب البعد الوظيفي(للخط)، الذي بقي يمارس في أفق محدود جداً.
  • هناك إشكال متعلق بقضية إسقاط المفاهيم الجمالية المعاصرة على الفن التراثي المحلي حيث لا يتوفر أي عامل لإعادة إنتاجها كما هي.. إذن كيف نقيم الناتج المعاصر؟ هل نستطيع إدراجه ضمن عبارة فن إسلامي معاصر على هذا الانتاج الوفير للحروفية وتطبيقاتها، التي تدفع بنا إلى نهج جمالي مغاير بين ماض موروث وتراث مستمر في العطاء..
  • إن المتعة التي نعيشها على وقع حدث تراثي هي متعة مزيفة لأنها لاتتطابق مع روح اللحظة المبدعة جمالياً لتلك النفحة التراثية.( كما ينتج الغربي أفلام الخيال العلمي التي تصبح فيما بعد خيالاً تراثياً، كما قال محمود عابد الجابري تصبح فهماً تراثياً للتراث.لما هذه الجملة من أبعاد.
  • هل الإنسان العربي ممتنع عن التجديد والحداثة سيما وأن حداثة العالم تصب فوق رؤوسنا شئنا ام أبينا.
  • في غالب الأحيان يتم الدفاع عن التحصينات التراثية لتغذية نرجسية ما، قد تكون أيديولوجية، دينية، أساطيرية ثقافية، وغالباً ما تكون دليل عجز عن استفسار أو استدعاء آليات التحديث.
  • الجماليات هي التناسب ، التناسق، الإيقاع، التماثل عموماً
  • الجماليات المعاصرة تستند إلى العناصر ذاتها ولكن تصورها يتم داخل منظومة المفهوم الذي يولد إشكاليات جمالية يتم التعامل معها على مستوى التقنية وهو مانستطيع ان نطلق عليه مفهوم المعاصرة.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You cannot copy content of this page

X