الخطاب الأدبي النسائي ومظاهر اختراق المسكوت عنه في التجربة السردية

الخطاب الأدبي النسائي ومظاهر اختراق المسكوت عنه في التجربة السردية:

بقلم الشاعرة المغربية: ليلى ناسيمي

في التجربة السردية:

     على عكس الشعر عالم السّرد منحوت بوعي مكشوف، ولا يوجد  مجال للتأويل بالعودة إلى لاوعي الروائي أو لتفريغ مكبوتاته، في السرد وعلى خلاف الشعر يقدم الروائي أفكاره ولا يحتاج ترميزا مبهما و لا إيغال في التجريد، وفاطمة بن محمود في روايتها “الملائكة لا تطير” لم تكتب روايتها بعفوية و لم ترتجل الأحداث و لم تخترع الشخصيات، أتت بالواقع وشرّحته كما هو وتناولت ما فعله اﻻسلام السياسي عندما وصل سدّة الحكم فقد قام بتغيير مشاكل المجتمع و إستبدل اسئلته و حاول توجيه مسار تفكير الشعب نحو ما يريده.

 مشاكل المجتمع الحقيقية ومطالبه الرئيسية رفعها الشعب التونسي من خلال شعارات واضحة أثناء اﻻحتجاجات الشعبية وهي:شغل، حرية، كرامة وطنية. غير أن الإسلام السياسي اقترح بدائل عن هذه المشاكل الحقيقة بافتعال مشاكل زائفة ليلوكها المجتمع (مثل ختان البنات، تعدد الزوجات، نكاح الجهاد… ) .

يتحدث الباحث بو علي ياسين عن “الثّالوث المحرم” فيقول إنه يحمل وجعا وجوديا وقلقا نفسيا وأرقا ثقافيا لا يستقيم معه العيش إلا بالمواجهة والمرأة في أوطاننا واجهت بوجه مكشوف.

الملائكة لاتطير للروائية فاطمة بن محمود
الملائكة لاتطير للروائية التونسية فاطمة بن محمود

 الروائية فاطمة بن محمود في رواية “الملائكة لا تطير” كانت جريئة في سردها و تحدثت بضوح عن “ختان البنات” هذه الظاهرة لم يعرفها المجتمع التونسي والمغاربي عموما، وتونس تحديدا تعتبر قلعة تحرّر للمرأة التي تتمتع بمجلة الأحوال الشخصية التي تضمن لها حريات عديدة و هامة جدا مثل سن للزواج وحق طلب الطلاق وتضمن لها حقوق كبيرة في كل الوضعيات القانونية و اﻻجتماعية، لكن عندما وصل اﻻسلام السياسي للحكم سعى إلى الاستيلاء على المجتمع بإضعاف المرأة، لذلك بدأت الشائعات  تغزو الشارع التونسي لارباك المجتمع في وسائل التواصل اﻻجتماعي و اعلام المجاري، نجد مثلا اشاعات مضمرة وموجهة تنشر بين الناس تقول أن هناك قوانين جديدة ستسمح بتعدد الزوجات، كما أن قدوم الدعاة إلى تونس استغل عادة لاثارة زوبعة ضد المرأة، مثلا عندما زار وجدي غُنيم الداعية المصري المشهور بفتاويه من أجل فرض ختان البنات راجت معه شائعة “ضرورة ختان الأنثى”، و بضغطة زر أصبح الجميع يتحدث عن هذا الموضوع الغريب عن تونس والمشكل الزائف و الخطير عن المجتمع الى حد أن ظهر أنصار من التونسيين أنفسهم يتبنون فكرة “ختان الأنثى” وهو ما مثّل صدمة للعديد من الشرائح الواعية من النساء و الرجال على السواء.

هنا حدثت الرجّة على ما يبدو للشاعرة و القاصة  فاطمة بن محمود واختارت أن تستفيق بسرعة من هول ما يحدث في المجتمع و ما يهدد المرأة و تكتب هذه الرواية.

في الفصل 30 ستتوقف المؤلفة عن السّرد بعد حادث الخفض أو الختن الذي تعرضت له نور على يد أبيها وصاحب المقص الغريب لتقحمنا معها في جدال بينها وبين نفسها وبينها وبين زوجها حيث جاء فيها ما يلي (متحدثة عن فعل الختان للطفلة نور):

 “صرختُ وأنا أدور في مكاني:  من قال أنها لم تقع، إنها تحدث في أذهانهم ويبررونها وهذا يعني أنها يمكن أن تحدث في الواقع أيضا، ومهمتي أن أواجه مثل هذه الجرائم حتى إن كانت باسم الدين” (ص 130)

أفهم جيدا أن دافع السرد لكتابة هذه الرواية هو الواجب، من واجب المبدع أن يلتزم باللحظة التي يعيشها لذلك يبدو أن إحساس بن محمود كان شديدا تجاه لحظة  رِدّة ثقافية واجتماعية كادت تقضي على البلاد.

أعتقد أنه يمكن الإشارة أن رواية “الملائكة لا تطير” ربما أول نص روائي عربي يملك الجرأة للحديث عن “ختان البنات” وجعله التيمة الأساسية في الرواية،

المفكرة النسوية الشهيرة نوال السعداوي فقد اهتمت بهذا الموضوع وكرّست له جهودها و كتاباتها و تحدثت عنه كتجربة اجتماعية و من زاوية البحث السوسيولوجي أساسا يعني تناول نوال السعداوي لختان الأنثى كان من خلفية علمية وهي محقة في ذلك كثيرا وجهدها لا يستهان به اطلاقا.

أما  أما أدبيا بمعنى أن يتحول ختان البنات إلى تيمة مستقلة بذاتها، إلى فضاء سردي تدور حوله الأحداث و الشخصيات يبدو أنه لم تكن هناك الجرأة الكافية للدخول في هذا المبحث الذي تحيط به أضلاع الثالوث المحرم  ويفتح مباشرة على الجسد والدين والسياسة.

 بعض الكاتبات العربيات تناولن هذا الموضوع بالتلميح من خلال سطر مبهم قد لا ينتبه له القارئ العادي مثل العراقية فوزية شاويش السالم في روايتها “سلالم النهار”، وهناك من تناولته في اطار سِيَرِي دون تفكيك وهو ما قامت به الكاتبة السودانية اشراقة مصطفى في كتابها “أنثى الأنهار، من سيرة الجرح والملح والعزيمة” وهو كتاب في السيرة الذاتية، تحدثت صاحبته في فصل وحيد وتحديدا في نص صغير على تجربتها الشخصية مع الختان دون تحديد موقف منها تجاه الحدث/ الجريمة، لم تقل أنها مع أو ضد ما عاشته كأنثى، أي قامت بعرض الحدث بشكل سريع وعابر وكأنه حدث عادي. أعتقد ان الكاتبة السودانية اشراقة مصطفى كانت جريئة في اﻻشارة إلى تجربتها الشخصية لكنها كانت جرأة محاصرة و محدودة، هذه الكاتبة تقيم – منذ مرحلة شبابها – في النمسا بمعنى أن الحرية والأمان متوفران لديها لكنها لم تقدم رأيها في الجريمة التي انتهكت حرمتها  الجسدية، هذا ما يجعل اﻷمر يبدو للقارئ وكأن “ختان الأنثى” حدثا عاديا و مسلّم به ويجب التطبيع معه. في رواية “الملائكة لا تطير” ﻷول مرة نجد “ختان البنات” هو التيمة الرئيسية التي تتناولها الرواية بكل شخصياتها وأحداثها و زمنها و مكانها وهو ما يُعد سبقا في مدونة الرواية العربية عموما وليست النَّسوية فقط. 

استنتاج آخر أجده مهما وهو التالي: من عادة الرواية التي تنقد الإسلام السياسي وتفضح مقولاته الوهمية و تكشف جهله و تطرفه أنها تفعل ذلك من خارج الحيز الجغرافي والزمني الذي يملك فيه الإسلام السياسي سلطة، بمعنى ان تكون الكتابات الموجهة ضده بعيدا عن زمنه و بعيدا عن مكان حكمه لذلك اختار البعض ان يواجه التطرف الديني من منفاه مثلما فعلت الروائية اﻻفغانية مريم هاشمي التي كتبت روايتها المهمة والمؤثرة “اللؤلؤة التي كسّرت محارتها” من منفاها بالولايات المتحدة الأمريكية وصدرت الرواية في الكويت عن دار كلمات سنة .2020 

  ما يحسب لفاطمة بن محمود أنها كتبت ضد اﻻسلام السياسي زمن حكمه و في مكان سلطته، كتبت عنه و مارست حقها في النقد وهي لم تغادر تونس و أيضا طرحت الرواية في السوق التونسية و الاسلاميون  على رأس السلطة. 

لم تواجه بن محمود قمعا مباشرا من السلطة وهذا قد يعود حسب رأيي إلى إدعاء الديمقراطية لدى اﻻسلام السياسي حتى يطمئن لهم أعدائهم في الداخل و الخارج، لذلك تركوا هامش الحرية “مؤقتا” حسب ظني حتى يضمنون التمكّن، فضلا عن انشغالهم بالوصول الى الحكم و التحكم التام في كل السلطات و التغلغل في كل مفاصل الدولة.

أعتقد أنه تحسب بشدة هذه الجرأة التي اختارتها بن محمود في كتابتها السردية خصوصا عندما نرى العديد  من المبدعين في تونس يختارون الصمت و يفضلون الكتابة في مواضيع مجردة فيأخذون القارئ إلى عالم الغيب و اﻻساطير و الخيال أو يختارون مواضيع لا تعني المجتمع التونسي و لا تعبر عن واقعه المتشظي مباشرة.

ما يمكن أن أشير إليه و يعزّز جرأة بن محمود أن هناك عدةَ دور نشر عربية رفضت نشر رواية “الملائكة لا تطير” مثلا في مصر  “دار رؤية للنشر و التوزيع” امتنعت عن نشرها لجرأتها، أيضا في السودان و في احدى دول الخليج حيث وصلت الرواية إلى القائمة القصيرة وكان ثمة عقد للنشر و الترجمة وقع التراجع عنه ﻷن الرواية عملا جريئا يفضح بنية التفكير الديني المتطرف. إذن لم تجرؤ دار نشر عربية على تقديم رواية “الملائكة لا تطير” التي تتحدث بعنف و بجمالية أيضا عن الإسلام السياسي وتفكك بنية تفكيره الزائف للدين، هنا لا بد التنويه بدار زينب للنشر في تونس التي استغلت هامش الفوضى في البلاد وقدمت لنا هذا العمل السردي المهم. 

 في هذه الرواية ألقت بن محمود بصخور في البرك الآسنة وألقت بالأسئلة المزعجة على لسان شخصياتها مرة  باسم نور وطورا بانزياح من ليلى في أحلام اليقظة أو عبر سيف نفسه في انسياقه خلف ذكرى لبنى واستغفاره، هذا الاستغفار الذي تكرر باستمرار و استعملته الساردة كإشارة أن المستغفر قد أتى مكروها أو زلّة و هذا يؤكد اهتزاز في شخصية المتديّن التي نجدها تعيش صراعا حادا بين العقل و الجسد  و تناقضا شديدا بين ما يقوله و ما يمارسه. 

في هذه الرواية بن محمود وضعت القارئ في مواجهة  فتاوي الفقهاء فيما يخص التطهر أو حول قبول المال الحرام والإنفاق منه ولعل قمة التراجيديا جاءت في فصل الختن المطروح في هذا المتن السردي،  وكذلك أبرزت التناقضات الشديدة التي تحفّ بالشخصية المتدينة والهنات البارزة في حياتها و التركيبة المعقّدة لسيكولوجيتها وهو ما فعلته بكل دقة عند رسم عوالم المتدينين المتطرفين بواقعية صارخة وكشفت عاهاتهم المستدامة في التفكير و فضحت تشوهاتهم الأخلاقية  وعُقدهم  النفسية المؤثرة، سنجد مثلا أن سيف المتشدد الديني المستبد على أهل بيته والسارق لطفولة ابنته والذي يستدرج الشباب الغِرّ ليلقي به في بالوعة التطرف والإرهاب الديني هو نفسه لم يتخلص من حنينه إلى حبيبته السابقة وهو نفسه له صفحة خفيّة في الفايسبوك بعنوان “العاشق الولهان” يستدرج فيها الغانيات ليمارس معهن الجنس الممنوع عبر النت.

لم تفوّت الساردة في رواية “الملائكة لا تطير” الفرصة للكشف عن المأزق الديني اليومي المُعاش في ظل الجماعة الإسلامية وساقته بسلاسة إلى القارئ حتى أنه يصعب بعد قراءة الرواية ألا تشعر برغبة في البحث عن أجوبة كثيرة لأسئلة أيقظها السرد من سبات أو من اطمئنان وكل ذلك دستّه بن محمود في طيات الرواية ببساطة شديدة وبذكاء لافت.

من يقرأ الرواية سيطرح بشدة أسئلة من نوع:

لماذا نجد الفتاوى الدينية تبيح جريمة ختان البنات ؟
هل شرف المرأة في عقلها أم في عضو من جسدها؟

لماذا يفكر المتدينون في أنصافهم السفلى بكل هذا التشدد؟

هل الدين (من خلال فتاوي علمائه) يحمي المرأة أم يهينها؟

لماذا يتحالف رجل الدين ورجل السياسة عندما يتعلق الأمر بجسد المرأة؟

نلاحظ أن مثل هذه الأسئلة تفتح على مثلث : الجسد والدين والسياسة.لم تكتف بن محمود باللغة أداة للسرد بل استعارت كاميرا المصور والتقطت بدقة مشاهد سردية مصورة ، بمعنى أننا نلاحظ توظيف الصورة السينمائية في أكثر من مشهد سردي لتُقرّب الفكرة والشخصية من القارئ وهي هنا تتصدى لسرطان التطرّف الديني بأشكال ابداعية فنية و جمالية لتعبر بجرأة وتدافع عن الحق في التعبير والتفكير والاعتقاد أي الحق في الحياة بكرامة.

ملاحظة أعتقد أنه لابد منها في ختام هذا الفصل أننا اليوم – في هذه الندوة مثلا – نتحدث بحرية عن جسد المرأة وهذا يعني أن “ختان البنات” الذي كان يهدد نساء تونس قد فشل، بذلك نؤكد على أن من أدوار المبدع هو استباق الحدث والتنبؤ بكارثيته و التمهيد لإفشاله وهذا ما فعلته بن محمود وأظنها رواية يمكن أن تُقرأ في المستقبل بشكل جيد لأنها كانت صادقة مع واقعها كثيراً

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You cannot copy content of this page

X