المرجعية المسيحية في لوحة عشاء المحارب الأخير للفنان إلياس الزيات.
يرجع بنا موضوع اللوحة ” عشاء المحارب الأخير” إلى السرديات الأولى للقصص الديني، لاسيما ما ورد ذكره في الأناجيل الثلاثة “لوقا- متى –مرقص”تحت مسمى “عشاء الرب” ، حيث يعلن سيدنا عيسى معرفته بالغدر من أحد الجالسين معه على المائدة وأنه سيصبح خروف الله. حسب إنجيل مرقص ” وبينما يأكلون أخذ يسوع رغيفاً وبارك وكسر وأعطاهم قائلاً: خذوا هذا جسدي، ثم اخذ الكأس وشكر وأعطى فشربوا منها كلهم وقال لهم هذا هو دمي الذي للعهد الجديد والذي يسفك من أجل الآخرين”[1].
رسمت لوحات عدة تتناول موضوع العشاء الأخير، اختلفت فيها تفاصيل تجسيد العشاء، بأساليب فنية لها مرجعيتها، وبشكل عام الفن السرياني والأيقونات السريانية تسعى إلى ترسيخ التقاليد الدينية من خلال أسلوب تصويري، يبتعد عن المحاكاة والتشخيص، يميل إلى التجريد والرمز، بينما الفن البيزنطي كان ناقلاً أميناً لفكرة العشاء الأخير، بأسلوب تصويري يعتمد التجريد مع الاستعانة برموز روحانية، تركز على صورة يسوع المسيح والأشخاص الموجودين فقط، دون الاهتمام بخلفية اللوحة أو مكانها، لاهتمامها بواقعية الحدث.
ظهرت لوحة ليوناردو دافنشي ” العشاء السري أو العشاء الأخير” التي نرى فيها ملامح فن عصر النهضة الأوربي من اهتمام بالمنظور والظل والنور، بطريقة بدأ فيها المسيح يأخذ هيئته الانسانية، اما في لوحة “دوجوانس”De Juanes, La sainte Cene، فإننا نرى المسيح قد أصبح بشراً جقيقياً، بالمقارنة مع أعمال الفنان الياس الزيات فهو لايرسم المسيح ولكنه رسم إنساناً بهيئة المسيح المرسوم في الأيقونات المنجزة في القرنين الثالث والرابع ميلادي. “كما وجدت منمنمات وأيقونات رسم فيها موضوع العشاء الأخير وهي مرسومة أيضاً بأسلوب مختلف يتراوح بين التجسيد والتمثيل”[1]،أما في العصر الحديث فقد تم تمثيل لوحة العشاء الأخير بأساليب عديدة تعكس التطورات الفنية والثقافة التشكيلية وهي تتنوع من الواقعية الدقيقة إلى التجريد الفني، وقد تستند إلى أسلوب الفنان والمدرسة الفنية التي يتبعها كما في الفن المفاهيمي الذي يعتمد الفكرة والتفسير الشخصي والمعاصر، لإعطاء العمل الفني أبعاداً رمزية كثيرة، تؤدي وظائف أو تفسيرات تحيل على العصر الحديث وقضاياه المتعلقة بالبعد الوجودي للإنسان المعاصر.
عند القيام بمقاربة بين لوحة ( عشاء المحارب الأخير) وأيقونة مسيحية سريانية، نجد أن اللوحة طغى عليها أسلوب التبسيط الشكلي واللوني مع غياب للحجم والتشخيص، وسيطرة الرسم الخطي الذي يحدد مساحة كل شكل عند تداخل اللون ومروره وتجاوزه حدود الأشكال في لعبة أثرت فيها مجريات الحدث المصور، وفرضت إضاءة لبعض زوايا اللوحة، مشكلة حركة بصرية ، ساعدت في استكشاف الموضوع المرسوم.
تتسم الأيقونات السريانية بأنها صورة لموضوع مقدس، تعتمد التشخيص، لا يوجد منظور بمفهومه الغربي بل يوجد حضور للمنظور الروحي أو الهوائي، عدم الاهتمام بالنسب أو بفكرة التناسب، ترتيب العناصر ترتيباً يتماشى مع الفكرة، غياب الجسد فهو مغطى برداء واسع ، وجود الكتابة على اللوحة الأيقونية، التقشف اللوني، التبسيط والتسطيح، خلفية فارغة للمشهد المصور، الخلفية والشكل في مستوى تصويري واحد، لايوجد خلف أو أمام او منظور خطي، اعتماد أنواع مختلفة من الشبكات لبناء الفضاء التصويري داخل الأيقونة، فقد يكون بعارة عن خطوط أفقية على شكل أشرطة متوازية ترسم داخلها المشاهد، او تكون شبكة أفقية وعمودية أو توزع بطريقة دائرية، بالتالي نستطيع تأكيد نظرية “ألكسندر بابا دو بولو” في تصوره للولب الذي على أساسه رسمت عديد من الأيقونات.
تشترك لوحة ” عشاء المحارب الأخير” في السمات السابقة لأسلوب رسم الأيقونات، فالفنان قد حاول رسم أيقونة معاصرة، استلهم موضوعها من لوحة العشاء الأخير التي حاول العديد من الفنانين رسمها، وأبرزها لوحة ليوناردو دافنشي.
إن لوحة “عشاء المحارب الأخير” تعتبر أيقونة بتصور معاصر، حيث لا تختلف عن الأيقونة إلا بموضوعها لحداثته، لكن أسلوب الرسم والتلوين وتوزيع العناصر قد تم بناء على مرجعية جمالية مسيحية استقاها الفنان من الأيقونات السريانية القديمة.
تبدو لوحة “عشاء المحارب الأخير” أشبه بنصب العائلة التدمري التذكاري، حيث ترقد أبديتها ويتحول القبر إلى نسخة كبيرة من صورة العائلة التذكارية، الذي نراه حتماً في اللوحة، فهو العشاء الأخير للمحارب كما أراد الفنان تسمية اللوحة، وهو عنوان الأيقونات التي رسمت العشاء الأخير للمسيح، فأي تشبيه وأية مرجعية وأية مكانة أعطاها الفنان للجندي المحارب في عصرنا الحالي، حيث شبهه بسيدنا المسيح بتضحياته العظيمة رغم معرفته بما ينتظره، وهو انزياح بالمعنى وانزياح بالتقنيات وأسلوب عرض الفكرة التصويرية، حيث ازدحمت كثير من العناصر مثل الثياب، قرائن صغيرة، طبق من القش عليه بعض الطعام في وسط اللوحة، المرأة والرضيع والشخص الرئيسي ذو النظرة الكبيرة والحضور القوي ، وهو تقليد يميز الأيقونات والمنمنمات، حيث يحتل الشخص الأكثر أهمية وسط اللوحة.
إن المتتبع لأعمال الفنان الياس الزيات ، يتحسس وجود خطوط عريضة لجمالية بدت أركانها ممتدة ضاربة جذورها في عمق التاريخ والدين والتراث والفن، نتبين ذلك من خلال تسميات الأعمال والتقنيات المستخدمة في تنفيذ العمل الفني، واكتشاف الأسس التشكيلية والجمالية في الممارسة التشكيلية المعاصرة في سورية، التي قد تمهد لظهور جماليات معاصرة ذات مرجعيات تراثية دينية.
المراجع
1-[1] -العشاء الخير حسب الأناجيل الثلاثة لوق- متى- مرقص ( عشاء الرب).
2- Antoni Maqudissi, Les chrétiens d’Orient et leurs Icones – Elias Zayat. Damas 2003.