التشخيص والتجريد في فنون حضارات سورية القديمة قبل الميلاد.
يعود زمن إنشاء الرسومات الجدارية في الحضارات السورية القديمة، ماري واوغاريت وإيبلا وحضارة الآراميين في امتدادها الزمني إلى اكثر من ( 3000)قبل الميلاد إلى الألف الأول او قبل بقليل حتى دخول الرومان والإغريق إلى تلك البلاد، نرى فيها حضارات استمدت أو عدلت فنونها حسب المعطيات الجديدة لتلك الحضارات، خاصة بعد انتشار المسيحية فيها مثل تدمر، رغم محلية الطابع الفني لتلك المدينة كما أكد ويؤكد كثير من الباحثين.
تتضمن الأعمال الفنية لمدينة تدمر نقلاً لمشاهد حية، مفرداتها التشكيلية عبارة عن شخصيات إنسانية، عاصرت نشوء المدينة، لذلك تم تمثيل أفعالها وسلوكاتها الاجتماعية كما هي مع تحويرات على مستوى الشكل والحجم وبعض الصفات، التي لم تلاقى بنفور من التشخيص والمحاكاة، أو محاربته، الذي تميزت به الديانات السماوية الثلاث” اليهودية والمسيحية والإسلام”، ولهم في ذلك تخوفات عدة، لكنها ليست السبب الحقيقي الذي وراء تبني هذه الحضارات لأساليب تصويرية تميل إلى التجريد، هذا المصطلح الحديث والذي باستخدامه في المجال النقدي لفنون الحضارات القديمة السورية، نكون قد مارسنا تعسفاً كبيراً ، رغم عدم وجود بديل له على المستوى الاصطلاحي او اللفظي، فنستعمله لنخرج من نطاقه الزمني ونخرج كذلك من صفة التشخيص المطلق لأن مانراه لايعتبر تشخيصاً بأتم معنى الكلمة.
وإذا نفينا عن تلك المنجزات الفنية صفة التجريد، وأرجعنا اكتظاظ الأشكال إلى الخوف من الفراغ، فلا نستطيع أن نفهم هذا التوجه للتعالي عن المحاكاة إلا ضمن البيئة الروحية لتلك الحضارات، وكما نرى في عدة تصاوير ، لايوجد تمايز كبير بين فنون ماقبل الميلاد في الحضارة الأشورية والبابلية والكنعانية والآرامية عن فن رسم الأيقونات في زمن اليهودية والمسيحية وفي المنمنمات الإسلامية، طالما أن هذه الديانات نشأت على أرض عربية وأقوام جذورها تنتمي لتلك الحضارات البائدة.
باستعراضنا لمفهوم التجريد في الفلسفة نجد أنه ” هو انتزاع صفة أو علامة من الشيء والالتفات إليها وحدها دون غيرها”1، وعند المدرسيين ” هو الصفة من جهة ما مستقلة عن الموضوعات الموصوفة بها، فالإنسان موضوع مجسم أما الإنسانية فهي فكرة مجردة”2 وهنا يدخل التجريد في باب العموميات من الصفات المتخصصة والدقيقة، ويذهب دوفرين أن ” التجريد لايقتصر على اجتناب الصورة المحسوسة فهو يسعى إلى أن يستخلص من المحسوس شيئاً هو بمثابة الحقيقة أو المفهوم أو الفكرة دون أن يفقد العمل الفني قيمته التصويرية”3 اما فورنغر فيصرح أن تجنب الموضوع او اختزاله يدفع به إلى التجريد.
نرى مما سبق أن كل التعريفات تشير إلى صلة التجريد بالواقع ولو بشيء، أي ان الفنان يعتمد استلهام الصورة المحسوسة او يقوم باختزالها، ولكن هل التجريد بتلك البساطة من الطرح؟… فالتجريد ربما ينطلق من الواقع ولكنه يتحول إلى واقع فني ممثل بصورة لاتمت بصلة إلى الواقع، وقد تكون هذه أحد مراحل التجريد الكثيرة والمتقدمة في البحث التشكيلي.
يطالعنا كثير من الباحثون بأن الميل للتجريد لدى الشعوب هو أمر حتمي، لكن مع البحث عن أسباب هذا الميل في نظرة الشعوب إلى العالم، وفي سلوكهم إزاء الكون، نخلص إلى الاعتقاد الذي كان لديهم بأن التجريد مجرد انتقال من صورة محسوسة إلى أخرى غير محسوسة ولكننا نلاحظ عمق هذا الانتقال و هو انتقال واشتغال للروح والجوهر بآليات المطلق، أو العكس إلى ماهيات الصور بحيث ينمو إلى ماهو أرقى من الحسي.
تؤدي تقنيات الاختزال والتحوير و التبسيط إلى التجريد في خطوطه العريضة، كالتعديل ونفي البعد الثالث( العمق)، إذاً على أي مستوى تمت المحاكاة عند تجسيد المرئيات والمشاهد المنقولة عن الواقع ؟… يرى أفلاطون “ أن الفن لايحاكي سوى الظاهر“4 وتلك الصور والتماثيل والنقوش تمثل محاكاة للظاهر العام الذي يتداخل مع الباطن المستتر، فلم يحاكِ الفنان الظاهر فقط بل نقل روح الجماعة. يتحدث أفلاطون بتلك العبارة لاعتقاده أن الحقيقة لايمكن لأحد أن يصلها أو أن يمثلها، مع إمكانية الإشارة إليها عن طريق مدلولات حية يحتفظ بها لتتحول إلى طقس ثم إلى رمز يكتسب مع الزمن صفة التقديس.
اما أرسطو فقال ” إن الفن محاكاة” وان هذه المحاكاة طبيعية وغريزية في الإنسان مثل اكتساب بعض المعارف ” محاكاة الطفل من أجل التعلم” زيادة على أن الناس يجدون لذة روحية في المحاكاة وهي ميزة لدى الإنسان تميزه عن باقي المخلوقات، والمحاكاة عنده ترتبط بثلاثة أشياء:
ماهو كائن” الواقع”.
ما ينبغي أن يكون.
مايحكي الناس عليه” الظن”.
” الفن له دور مزدوج، محاكاة الطبيعة ثم التسامي عنها، وهو يذهب هنا إلى أن الفنان ينقل مايراه في الواقع حرفياً وإنما المقصود هنا هو عملية الخلق لكائنات تامة الصورة يكونها الفنان حيث يضفي على المادة التي يستعملها صورة وشكلاً” 5
ويرى هيغل أن النظرة التي تؤكد المحاكاة في الفن تصنع الذاكرة بدلاً عن الخيال المبدع، كأساس للإنتاج الفني أن الفنان حين يحاكي الطبيعة يرهق نفسه في تذكر التفاصيل الدقيقة يدلاً من أن يجعل خياله المبدع يقوده.
– المراجع
المعجم الفلسفي.المركز القومي البيداغوجي، مجموعة من الأساتذة تونس 1977م، ص31.
المصدر السابق ص 187-167.
أمهز(محمود)، التيارات الفنية المعاصرة، ص216.
روبنسون( ديف) جروفر( جودي)، أفلاطون، ترجمة إمام عبد الفتاح.