فنون التراث الإسلامي والتحديات الجمالية الراهنة

        تحمل فكرة التصورات الجديدة للتراث المادي، ووجودها في الحيز الثقافي العربي الراهن، تساؤلات عن المعاني الجديدة التي يكتسبها التراث المادي في الوقت الراهن، والذي يمثل جملة من المنتجات والمقتنيات المادية، التي أدى استمرار وجودها والحاجة إليها إلى مساهمتها في حفظ جانب كبير من المخزون التراثي، وهناك مقتنيات تم إنتاجها على ضوء المعطى التراثي، أو إضافة رموز تراثية لغايات لها تبريرها في سياق نظريات المفهوم المتبدل والمتحول حسب سياق الفكرة الجمالية الراهنة للحدث التراثي، الذي ينبني على فلسفة التأويل التي تكتسبها منجزات فنية معاصرة، الذي أعطى حيزاً للتساؤل  عن مدى تطابق تلك المشغولات مع مراوغات الحداثة والمعاصرة وما بعدهما، المطنبة في كلا الاتجاهين قديم/حديث، حديث / قديم، الذي يعتريه الخلط بين الأساليب والخامات والحنين إلى الماضي واستثارة ذكريات معينة عن طريق الإيحاء،  لإنشاء علاقات مركبة جديدة عن طريق الاقتباس الانتقائي وقلب التأليفات المألوفة والتهجين المستمر لزمنين أو عدة أزمنة ، وهو بمعنى آخر تهجين، يتخذ صوراً ومنابع وسياقات متنوعة، ناتج عن تفاعل ثقافي حضاري عميق أو تثاقف باتجاه واحد بالنسبة للبلدان النامية، فرضته مكنة العولمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تهجين يتوافق  مع تنامي الوعي والذائقة المحلية واستساغة الأساليب المبتكرة، الذي يخضع إلى تحولات جوهرية وشكلانية في الآن ذاته في كلا الاتجاهين  ، ويحاكي رغبة في المعاصرة والتفتح على مفاهيم  تبدو متماهية مع سيولة تدفق العولمة وحداثتها مع وجود رغبة أخرى في المحافظة على الهوية والانسجام معها وربما التقوقع في دهاليزها.

   إذاً : ماهي الدلالات الجديدة للمنتجات الفنية التراثية المعاصرة، وهل تلك الدلالات تطرح جمالة جديدة متصلة بالهوية ؟.. ، وإذا اعتبرنا التجديد نوع من التهجين، فما نسبة هذا التهجين وما هدفه ومدى انسجامه مع المنجز المضيف؟ وهل تلك الإضافة ذات اتجاهين؟.. وكيف يتم تسوغه مادياً وتذوقه معنوياً ضمن هذا المزيج الحضاري غير المحدود؟.

  • ماهو التراث؟..

يعتبر البحث في مفهوم التراث من المباحث، التي خاض فيها كثير من الباحثين ومازالت، نظراً لهيولية هذا المصطلح باعتبار الزمن، والتنوع الحضاري المتراكم، والتأثيرات الثقافية للشعوب والحضارات، فقد ورد في لسان العرب أن التراث ” الورث والإرث والإراث والتراث واحد والميراث أصله موروث انقلبت الواو ياء كسر ما قبلها والتراث أصل التاء فيه واو، والتراث ما يخلفه الرجل لورثته والتاء فيه بدل الواو، وحسب معجم المعاني” فمن ترك تراثاً إرثاً ينتقل من جيل إلى جيل”، مما نلاحظ اتفاق جميع المعاجم على أن التراث عبارة عن تركة قديمة لزمن قادم، وعليه تحددت مفاهيم أخرى تشعبت بتشعب أنواع وتوجهات الدراسات التراثية. ويذهب البعض في تعريف التراث بأنه عبارة عن “معالم نفسية وفكرية وجسمية تستمر من الماضي عاملة في الحاضر وموجهة دفة المستقبل”[1] والبعض يرى أن ” التراث ظاهرة فكرية تمثل الخلفية الحضارية الممتدة لأمتنا في الماضي والتي لازالت عناصرها الكثيرة سارية ممتدة بل وفاعلة ومؤثرة في حياتنا الراهنة”[2].

يأخذ مبحث التراث أهميته باعتباره مرجعية ، لا نستطيع تجاهلها فهي من محددات الهوية الثقافية الخاصة بنا ، نحن بلدان العالم الإسلامي مع عدم تجاهل الهويات المختلفة التي ساهمت في صنع ذاك التراث وصاغت اتجاهاته الجمالية، انطلاقاً من الفكر العربي الإسلامي، لذلك ظهرت تعريفات أخرى للتراث، كانت أكثر تحديداً لماهيته وأنواعه ونظرياته وفلسفاته. لكننا سنقتصر على التراث المادي وجمالياته ودورها في الراهن العربي والعالمي، غير منكرين ما يتعرض له من تغييب أو تغريب أو تأليه وتقديس، باعتبار جودة المحتوى التراثي على كل الأصعدة وصلاحيته لكل زمان ومكان .

يعتبر موضوع التراث المادي وجمالياته هاجساً،  مازال يطفو على سطح الأبحاث والمنجزات الثقافية المعاصرة، فقد خصص له الباحثون مؤلفات عديدة، مثل الدكتور “عفيف بهنسي” الذي بحث في جمالية الفن العربي و التراث الأثري السوري والخط العربي  وفنون العمارة الإسلامية وموسوعة التراث المعماري وغيرهم، والباحث ” سعد الدين كليب” الذي أفاض في الحديث عن أصل جماليات الفنون العربية الإسلامية، التي تأثرت بنظرية الفيض الإلهي، مستعرضاً أسسها عن أفلاطون والفارابي والسهروردي وابن عربي والتوحيدي وابن سينا، والتي تتحدث عن جمالية الكمال المطلق وجمالية الجليل، كما تحدث المفكر ” الكسندر بابا دو بولو” عن جمالية الفنون الإسلامية في كتابه ” الفن الإسلامي” كذلك جورج مارسيه وايتنهاوزن الذين درسوا الفنون الإسلامية واستعرضوا أماكنها وعصورها، منتخبين أجمل مافي التراث من منتجات فنية.

  • تعددية التراث.

     التراث تراثات، وهذا يعني وجود تراث مادي وتراث لامادي، يتفرعان إلى عناوين ومسميات أخرى وهي، تراث أدبي، تراث علمي، تراث فلسفي، تراث ديني…..بتناولنا لفنون التراث وجمالياتها، نقصد التراث المادي حصراً والمتمثل في كل أثر مادي موجود بقي محافظاُ على شكله أو جزء منه وصل إلينا ويتألف من مباني ومأكولات وأزياء ومقتنيات وأدوات، توارثت الأجيال طرق صناعتها وهي مدعاة للافتخار والمباهاة.

    تعتبر العمارة الإسلامية والطرز المتعددة لها ابتداءً من الطراز الأموي وانتهاءً بالطراز العثماني، أحد ركائز تراثنا المعماري، الذي يواجه عمارة اللاتراث المندرجة تحت انتماءات جمالية حداثية،  أنتجت عمارة العولمة وعمارة النمط الواحد، التي يمثلها المعماري “لوكوربوزييه” مبتكراً مايسمى “Maison Domino”[3]، وهي عمارة تستند إلى أعمدة وطرابق عمودية الاتجاه.

   يخضع التراث للتنوع العرقي والحضاري والأيديولوجي ،  وهو تنوع مفاهيمي يتغير فيه استخدام المفهوم من شخص لآخر ومن جهة لأخرى ومن أقليم لآخر، فهناك تراث موروث وتراث وافد وتراث مبتكر وتراث القبيلة وتراث العائلة وتراث محلي وتراث إسلامي وتراثاً حضارياً متراكماً. فالتراث الموروث  هو ما تركته حضارات عاشت في الحيز الجغرافي للعالم العربي الإسلامي، مثل الأثار الرومانية من مسارح وتماثيل وأبنية، وما تركته الآلة الاستعمارية من آثار معمارية كالعمارة الإيطالية والفرنسية الموجودة في بلادنا العربية، أما التراث المحلي فهو ما تركته حضارات سابقة للإسلام في بلادنا العربية مثل الحضارة الفينيقية والسريانية والبربرية في المغرب العربي، لتأتي فترة التراث الإسلامي  المادي الذي صمدت تركته منذ العام الهجري الثاني وازدهرت في العصر العباسي أي منذ منتصف القرن الثاني للهجرة إلى القرن الثالث للهجرة ممتداً إلى الفترة العثمانية وإلى وقتنا الراهن، وهو تراث يأخذ صفة المحلي والموروث والمستمر، مع اعتبار استمرارية وجود أنواع التراثات الأخرى في زمننا المعاصر ولو كانت غير فاعلة، لكنها حاضرة كأثر مادي يتم استغلاله بطريقة مغايرة لما كانت عليه في السابق، فقد تكون متحفاً أو معلماً أثرياً سياحياً أو أي استخدام آخر ضمن تأهيل المواقع الأثرية للقيام بدورها الحضاري في وقتنا الراهن.

   تحيلنا التعريفات الكثيرة للتراث المادي الثقافي، إلى الخيط الرابط بينها وهو الأثر المعنوي، أي تلك الاعتبارات الروحية التي شكلت التزامات ضمنية لاستمرار الشكل التراثي للفنون، الذي فسره بعض الباحثين بأنه وسيلة تواصل ووجود وهوية.

  • تأقلم جمالي أو تحدي.

      يخضع مفهوم التراث إلى ملابسات مفهوم الهوية والأصالة، مقابل الخوف من فقدها ، بالتخلي عن الموروث التراثي في أبعاده الحضارية المادية والمعنوية، أمام ظهور نزعات جمالية حداثية فرطت بالمعطى التراثي وتجاوزته، أو أقحمته في صميم المنجز الفني مثل زخرف أو علامة، بدعوى الانفتاح على قضايا جمالية من شأنها تطوير الذائقة الفنية،  بالمقابل يعتبر انفتاح الفنان العربي على التقنيات والأساليب الغربية وممارستها، نوعاً  من التغريب أو الانسلاخ عن ما يميزه عن الآخر الذي ينتج فنونه ضمن صيرورة زمنية متناغمة، تدعمها الروح التجريبية الذي يتميز بها، بينما يقوم الفنان العربي بإنتاج فنون الغير إذا تبنى أسلوباً فنياً غربياً، وهو ما يجعله ينتج في غير إطاره أو سياقه الفني والحضاري الذي ينتمي إليه، ما يشكل نوعاً من الغربة الفنية المكتسبة تجريبياً، وهو أمر مرحب لاعتباره تماهياً مع الآخر المختلف،  بل تطوراً قد يؤثر في تغيير النمطية الفنية المنتجة خلال عصور مضت، ما يقفز بالتراث المحلي نحو العالمية وينتشله من نمطية الانتاج والتكرار والقوقعة ضمن قوالب فنية جاهزة ومتوارثة، وهنا تطرح فكرة الاستغراب أو التهجين أو النمطية كمصطلحات ومفاهيم، حاصرت الفنان العربي ومازالت، تتحدى جماليته المتوارثة قلباً وقالباً، فالحداثة مرتبطة بالمعطى الحضاري الغربي، والمعاصرة أيضاً، إذ توقف الفنان العربي والحرفي والمصمم منذ قرون عن مسائلة تراثه الفني ومحاولة تفكيك منغلقاته الثقافية والفكرية وأصولها، حتى يتوصل إلى ذائقة عربية خاصة بإنتاجه الفني، وليس الارتياح إلى المعطى التراثي وإلصاق بعض الرموز على جسد المنجز الفني، بحجة الاقتراب أو محاورة التراث المحلي، لكسب ثقة المتلقي الحائر بين تراثه وحداثته ، إلا إذا قمنا بقبول تلك الحداثة على أنها أساليب وتقنيات وفكر تجريبي، قد ينهض ويغير رؤيتنا المحدودة للتراث المحلي الموروث.

  • جماليات تراثية جديدة

      إن موقفنا من الجماليات الجديدة، لابد لها من فلسفة خاصة، تستطيع بها تحويل وجهة التذوق عند العامة العظمى من الناس، فالرفض للجديد مبطن بالاستكانة للمعتاد والمعهود، وقد يكون في عدم التوافق بين الجماليات الوافدة والجماليات المحلية، وعدم إشباع التصورات الجمالية للعامة وبالتالي عدم التجاوب والفهم، لنا في ذلك رفض بعض الخطاطين ، التوجه نحو الحروفية باعتبارها زخرف، أخرج الخط العربي من مقروئيته ووظيفته الاتصالية في إيصال الفكرة والموضوع، على الرغم من وجود بعض اللوحات الخطية القديمة التي تميل إلى الإعجام وعدم المقروئية، وهي قريبة جداً مما يطرحه الفنان الحروفي في تكويناته الخطية، لكن الأمر مغاير في مجال العمارة الإسلامية المعاصرة، الموجودة في الدول الأوربية وبعض الدول العربية، مثل “مسجد المدينة التعليمية  في قطر”[4] و”مسجد كولونيا المركزي”[5]   الذي بني على الطراز العثماني مع إضافات جمالية معاصرة، تتناسب مع الفضاء العام ، وهي مبان  مزجت التراث مع الحداثة في توليفات عصرية أخاذة، استفادت من التطور في الرؤى الجمالية، التي طرحتها تصاميم الفنانين والمعماريين على السواء.

إذاً، يمثل المعطى التراثي المادي للفنون الإسلامية ، مجموعة من الصناعات والحرف والفنون والعمارة الإسلامية، التي تختزل وتجمع جميع أنواع الفنون من زخرفة وخط عربي وخزف بأنواعه المميزة، ومنمنمات ومخطوطات ومسكوكات، التي لازال ينتج بعضها على ضوء المفاهيم المعاصرة وبعضها الآخر اندثر مع اندثار الزمن الموافق لها مثل المسكوكات القديمة الأموية والعباسية والعثمانية، رغم عدم تبدل الجوهر كثيراً في شكل العملة المعدنية وتدرجاتها القيمية، أما المنمنمات فقد استبدلت مع عصر الطباعة بصور مطبوعة، والزخرفة العربية الإسلامية لازالت تنقش ولكن بأسلوب التبسيط والتخفيف والاختزال ما يتناسب والعصر الحالي، كذلك الخط العربي الذي أنتج حروفية تجريدية يضاهي بها تجارب عالمية في فن التجريد.

    إن تغير مواصفات الفنون التراثية مع الوقت، وإجراء تحديث أو تجديد أو إحياء، كله  رهن بعوامل عدة منها كثيرة تتعلق بتحديات قابعة في التراث ذاته فهو ممتنع على جماليات معينة، محدد وواضح أقام هيكله في القصور والمدن والبيوت الأثرية والمساجد، كما رسم أسلوب تناول التراث الفني وأدواته، ما يمثل تحدياً صامتاً يحمل مضامين، لجمالية مرتبطة بالمعطى التراثي المعنوي الذي يمثله الدين، وهو ما أدى إلى صنمية جامدة، تتحرر أحياناً بفضل الاستعارة وإعادة التشكيل للمعطى الجمالي التراثي كقيمة، وليس وسيلة تكلف أو  ادعاء وتشوف  وحنين إلى فنون مضى زمانها، يساعد على ذلك الكلفة المادية وفقدان المواد وصعوبة إنشاء منجز تراثي بالمواصفات الحقيقية الأصلية. ضمن البدائل الموجودة والمعاصرة لنا، تمت إعادة إنتاج الرمز التراثي، خالياً من حمولته القيمية، فهو كائن خارج التراث وخارج الحداثة الفنية، إذاً كيف نضمن تشكيلاً آخر لفنون التراث الإسلامي يتناسب مع الحاضر الإسلامي.  

[1] –  رفعت سلام، بحثاً عن التراث العربي ط، 1989م، ص15.

[2] – عبد الحليم عويس، الإسلام، ص65.

[3] – لو كوربوزييه، Maison Domino، وهو نموذج اساسي من الينايات الذي يميزه الأعمدة الطليقة والطوابق الصلبة.

[4] – مسجد المدينة التعليمية في قطر، واعتمد في تصميمه على فكرة رئيسية ترتكز حول مفهومي الاستنارة والعلم ,وعبرا عن هذين المفهومين بشرطين يرتبطان لتكوين كتل المبني المختلفة إلي أن ينتهيا بالارتقاء إلى السماء باتجاه القبلة كرمز لمئذنتي المسجد. وتقف مئذنتان كبيرتان على جانب المشروع على ارتفاع يصل إلي تسعين متراَ كمل يشكل الخط العربي قلب المبني.

[5] – يقع المسجد في المانيا ، بناه بول بوهم، وهو مصمم على الطراز العثماني بلمسات عصرية. https://abunawaf.com/

مقالات

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You cannot copy content of this page

X