جدلية التقابل واستقطاب الزمن وولادة الأسطورة المعاصرة
الفنان إلياس الزيات نموذجاً
للمكان والزمان سطوة على الذات، فما بالنا بذات مبدعة، تستشرف الأفق بمخزون ثري من التاريخ والدين والأسطورة، حيث تتداخل المجالات الثلاثة في تماه لحدودها لتظهر الأسطورة نسجاً إلهياً لوعي جمعي تضج به ذواتنا.
ولد الياس الزيات في دمشق عام 1935، ودرس التصوير على يد الفنان السوري ميشيل كرشة، ثم في أكاديمية صوفيا للفنون الجميلة، وبلغاريا تحديداً مع الاستاذ إيليا بتروف، ثم في القاهرة مع الاستاذ عبد العزيز درويش، ودرس أخيراً فن ترميم الأيقونات في بودابست، أعماله موجودة في معهد العالم العربي في باريس، كتب وحاضر في موضوعات تاريخ الفن والأيقونة الشرقية. وهو يعتبر أحد أهم من رسم الأيقونة وأعاد لها فضائلها النقية وأصولها السريانية المشرقية، محرراً إياها من هجانة التناول التي بعثرت قيمها التشكيلية بإملاءات من تعاليم الكنيسة الأوربية، التي مالت إلى أسلوب عصر النهضة في الفن التشكيلي. فهو يصور الأيقونة على الخشب كما يصورها فنان القرون الوسطى، لكنه في الوقت ذاته خبير متميز في الفن المعاصر. تحتوي الأيقونات والمنمنمات السريانية القديمة تشخيصاً لصور بعض القديسين والحواريين وملائكة يحيطون بالمسيح أو بمريم العذراء، كما نرى الشجرة المقدسة وأكاليل الغار،وصخوراً خرافية البنية وواجهات معمارية قديمة أسطورية، ونجد أيضاً الحصان
المجنح والتنين في أيقونة مار جرجس، وطيور خرافية والحمل الذي يدل على المسيح كما هو مثبت في العهد القديم(أسلم للموت بوداعة الحمل)، والأجنحة التي تميز الملائكة.
إذا فالأيقونة عبارة عن لوحة مصورة حاملة لحدث أسطوري ذو بعد ديني، يمتزج فيه المعقول باللامعقول، المرئي باللامرئي، الخيال بالواقع، الحاضر بالغائب مع استمرارية فعل الحضور والاعتقاد، الذي يبرر الرمز الكائن فيها من الدقيقة الأولى لرسمها وتجسيدها ضمن طقوس متعارف عليها، لأن رسم الأيقونة يعتبر صلاة وممارسة للعبادة، تبدأ بالوضوء لكي يتمكن الرسام من المساس بمكوناتها المؤلفة من خشب الصنوبر وهو الشجرة المقدسة والألوان الترابية الطبيعية المنشأ التي تخضع في أثناء تحضيرها إلى طقوس معينة، يتم تثبيتها بزلال البيض الذي بدوره يمتلك مدلولاً دينياً، فالبيضة رمز للولادة، وهكذا نجد أن المؤسسة الدينية حافظت على حياة الطقس والأسطورة، بحسب قول فراس السواح[1] “ودائماً كان الطقس والأسطورة في بؤرة اهتمام المؤسسة الدينينة التي عملت على تنظيمها والخروج منها، من العفوية التلقائية إلى وضعية الضبط والتقنين”.
صور الياس الزيات لوحات من الواقع المعاش بأسلوب معاصر،وجد صداه في الممارسة التشكيلية والفعل التشكيلي، الذي يتظاهر في الأيقونة التي وجد ها في جداريات” دورا أوروبوس“[2]، والأيقونات البيزنطية، وتعتبر لوحة مدينة (معلولا الوجه)[3]المدينة الآرامية المنحوتة في الجبل ،مثالاً لفضاء مادي حقيقي ، يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة بالدين.
وكانت مواضيع لوحاته ومحتواها لاتخلو من العناصر التي يستجلبها لتحلق في فضاء خياله المبدع، نذكر منها لوحة القدس أو الأطفال والطيور والمدينة، ومجموعة لوحات الرقص والمدينة ومجموعة أخرى مستوحاة من القصص الإنجيلي مثل لوحة عشاء المحارب الأخير التي تحاكي لوحة العشاء الأخير الموجودة في المنمنمات السريانية بأسلوبها التصويري، ومجموعة أخرى من اللوحات ينحو فيها نحو مواضيع التصوف فنراه يرسم محيي الدين ابن عربي المدفون في دمشق، والحواريين والمجدلية والبشارة والرؤية.
سئل الفنان الياس الزيات في لقاء حواري مايلي:
يقال أن الفن جاء للتعبير عن تجاوز الواقع وإيجاد واقع آخر والسؤال لماذا تختار أحياناً العودة إلى الماضي والأساطير في لوحاتك. فكان جوابه إن الهروب إلى الماضي والأسطورة هو البحث عن ملاذ روحي بعيدا عن واقع يؤرقه. وعن الأسلوب والتقنية يقول قمت باستعارة أسلوب فكر الرسم الأيقوني. وفكر الأسطورة وفكر جبران فمن هذا الثالوث تنبع طريقتي في الرسم، وجبران قام بهذا أيضاً إذ تخيل أورفاليس المدينة في كتاب النبي وأجرى الحوار المدرحي (المادي والروحي) على لسان المصطفى وأبناء أورفاليس مدينته المبتكرة.
نعلق هنا على مقولة فكر الرسم الأيقوني والتي يهمنا منها الأسلوب أو الطريقة التي تتظاهر فيه العناصر تشكيلياً، لنجده (الياس الزيات) يعتمد التبسيط والتسطيح فلا وجود للحجم أو التجسيد، فهو يعتمد أسلوب خط/مساحة، الخط وقد بدا جوهريا في تحديد الشكل، وطلاء المساحات المحددة خطياً في تجاوزات تتطلبها الفكرة. أما مقولته عن استعارة فكر الأسطورة فيتمثل في نقل بعض العناصر الأسطورية الدينية وتوظيفها في لوحاته، لعلاقتها بالقصص الديني الذي لم يتخل عن بعض الأساطير لفكره.
يقول نيتشة: لقد اخترعنا الفن أو لدينا الفن كي لانموت من الحقيقة.
يعتبر استلهام الأسطورة مسوغ جمالي، يستثير الفنان ، ليبتكر الأشياء والعناصر والمواضيع. لذلك يقوم باستعارة أدواته وتعبيراته الفنية من جسد الأسطورة، كتمثيل مطلق للحدث خارج الزمان والمكان، تفاعلاً وتخليدا وإشارة واستفهام، إضافة للقيمة والمعنى لخطاب بصري بعيدا عن الإنشاءات المنمقة، مخاطبا الوعي بتعبيرات حداثية عابرة للزمن. ويقوم بخلق آلهته المؤقتة على نسق الاغريق، مستدعياً جزءاً من الحكاية الأسطورية أو بعضها . ينقلها أو يحاكيها، فهي تكاد تكون وسيلة سريعة الفهم من خلال المقاربات التي ينشدها في اعماله. أو تزيد في غموضها، فلا تستدعى الأسطورة منعزلة مثل حكاية للمتعة والخيال.
لنا في ذلك مجموعة لوحات (الرقص والمدينة)، التي تتألف من ثلاثة وعشرون عملاً، وهي مجموعة من اللوحات التي تعتبر تأويلاً وتكراراً لعمل خيالي واحد،وهي ذات مخطط شديد التأثر يمكن اختزاله بفكرة بسيطة عن القوة الإنسانية وارتباطها بالكون، يتأمل الياس الزيات بقصة ميترا[4]( إله الشمس) الذي نزل من الكون ليكمل قصته : ليقتل الثور( رمز القوة الإخصابية في ديانات قبل الميلاد.
كان ميترا هو الوسيط بين الله الذي يملك في السماء، وبين البشَر الذين يكافِحون، ويتألَّمون على الأرض. وهذا ما أنشأ أوَّلَ مفهوم عن الحاجة التي لدى الإنسان ليتِوَسط بينه وبين الله. وبالنسبة للفارسيين كان ميترا متطابِقًا مع يسوع المسيح، فإن ميترا ويسوع هما تشخيص للشعلة الإلهية. فعِوَضًا عن اتِّباع شخصًا أو نبيًا، فهو يذهب مباشرة إلى منبع النور: ذلك النور الذي هو نفسه عبارة عن ومضة. لايحضر ميترا في لوحات الياس الزيات إلا انها كأسطورة تؤسس لمفاهيم خاصة ضمن حدودها، لأن لدى الزيات طموح ليسيطر على العالم الكائن خارج الأطر النظرية أو التاريخية، وابتكار مقولة لتأمل اللوحة ضمن مفهوم معاصر حالي، إنه أحد أبرز الفنانين السوريين الذين قاموا بإدخال الرمزية الدينية والأسطورية إلى اللوحة المعاصرة.
ضمن هذه المقاربة التي تسمح باللازمنية التي تتخلل فن ما بعد الحداثة والفن المعاصر، الذي يعتمد المفهوم في تمثلاته الفنية، وتصبح الأداة مسؤولة عن تظاهر المنجز التشكيلي، كما يصفه كثير من النقاد بأنه فن يقرب كثيراً من الطقوس الجماعية ، بمعنى أكثر وضوحاً طقوساً فنية جماعية، وكونه فن استحالة التحديد وأنه فن المعارضة والمحاكاة لفنون سابقة، أو تجميع لتقنيات فنية منسجمة أو متنافرة ، يختلط فيها الرمز مع الافصاح.
نجد مجموعة لوحات ( الرقص والمدينة) المتضمنة لمفهومين، مفهوم الرقص الذي يروي أسطورة الجسد الفاعل والمنفعل، ومفهوم المدينة التي تعتبر مسرحاً أسطورياً على الرغم من واقعيته والمفهومان معاً يشكلان حكاية ملحمة أبدية، فأي رقص وأية مدينة، وأي تصوير للفردوس الذي سيشيد على الأرض ليعلنها جنة أرضية عبر عنها باللون الذهبي واللون الأزرق السماوي، اللذان سيطرا على مشاهد الرقص والمدينة، كما في الفسيفساء البيزنطية، وهما لونان يتصفان بالقدسية، إذ تمثل الهالات الذهبية الموضوعة فوق الرؤوس رمزاً للأشخاص الذين لهم مكانة دينية هامة، مثل القديسين والملائكة، أما الهالة التي تميز شخص المسيح يوجد عليها صليب، و اللون الأزرق رمز البشرية، وهذان اللونان غالباً ما يتوحدان ويتمايزان في الوقت ذاته. تتم القراءة التشكيلية لأي عمل فني على مستوى البنية والتأليف والألوان والمواد والتقنيات، وهي تعتبر محاولة في تفكيك وتحليل العمل الفني إلى مكوناته ودوافعه و أصوله الذاتية والموضوعية وهي عملية ليست سهلة، ويحفّها كثير من العقبات، وخاصة عند الولوج إلى جدلية الموضوع التي تخرج العمل الفني من ذاتيته واستقلاليته كمنجز مادي،
يحاور ذاته بذاته، ويسقطه في الوصف. وتعتبر هذه أول مراحل قراءة العمل التشكيلي، وأعمال الياس الزيات من هذه الوجهة هي قراءة لمخزون الذاكرة البصرية المتأثرة بالهوية المحلية الدينية الأسطورية، وقراءة لعناصر أسطورية/دينية احتلت مكانها في عمق التشكيل عند بناء الفضاء التصويري.ما يعبر عنه الباحث (سيد القمني) بالرداء الديني للأسطورة، حيث عجزت الأسطورة عن تلبية حاجات الإنسان التفسيرية لما يحدث له
ليكون الدين، الذي قدم بدلاً من التفسيرات القديمة لغة رمزية تحل مشاكل الوجدان في عالم تصور هلامي.
ارتبط الرقص عبر التاريخ بالطقوس الدينية ( شكر الآلهة، طرد الأرواح الشريرة، الرقص الجنائزي أمام القرابين. جلب المطر، رقصات الحرب……)، تبعه بعد ذلك تطور في تناول موضوع الرقص فأصبح مهنة تمارسه فرقاً مختصة، وهناك رقصاً فردياً ورقصاً جماعياً، يمارس على النطاق الشعبي والحفلات الخاصة والعامة كأداة ترفيه لإشاعة الفرح. أو التعبير الجسماني الذي يراد منه محاورة مفهوم ما، وهو أشبه بطقوس احتفالية مجتمعية عامة ارتدت ثوبا جديداً للطقس القديم.
كما بيّن “قوفمان”[5] أنّ الناس كائنات طقوسية بكلّ امتياز ولا يمكنهم العيش معا إلاّ بواسطة طقوس تنظم مبادلاتهم الرمزية المختلفة. فالمجتمع مسرح يومي تُّؤدّى فيه الأدوار منتظمة وفق طقوس تفاعلية لا تستوي الحياة الجماعية بدونها، وضمن هذه “اللعبة” يملأ كل فرد موقعا له ضمن مسرح المكانات. و”ليس لعاقل أن ينكر فائدة «الرقص» فى تعديل مسار«الطاقات الحبيسة» التى يعانى منها الإنسان الذى ينشد الاسترخاء . ليسمو إلى مستوى «التعبيرعن الحياة الروحية». ومن المؤكد أن الجسد الراقص، يعبر بالحركة عن الانفعالات المختلفة (الابتهاج أو الحماسة او الاستنفار أوالخوف أو الغيرة أو الحزن) بمصاحبة الموسيقى والإيقاعات ،والأزياء الخاصة لتى تمنح الراقص أكبر قدر من «حرية الحركة» ،و تساهم فى تحقيق قوة الأداء ،والتعبير الفنى بمنتهى الأناقة والجمال”.[6] تتظاهر لدينا عند تناول أعمال الفنان الياس الزيات صياغات وإنشاءات تشكيلية لونية وخطية تعبر عن عدة متحولات لموضوع واحد مثل الرقص/ الدين، الرقص/ الجسد، الرقص/ المدينة، الجسد/ المدينة، المدينة /الجسد. تمارس فيه الشخوص الراقصة ، فعل الرقص الموجود ابداً من قبل التاريخ إلى يومنا هذا،وهي مقارنة بين صورتين قديمة موغلة في القدم وحديثة مسترسلة ومستمرة لحدوث الفعل ذاته، بالأبعاد ذاتها حركة وانفعالاً، لأجساد لا حضور فعلي لها ، إذ يتعمد غياب الامتداد التصويري للجسد في جل أعماله، الذي ممكن اعتباره غياباً للأبعاد الحسية له، لذلك لانرى في أعماله سوى الرؤوس والوجوه ذات العيون الكبيرة المفتوحة والتي نستطيع تحميلها دلالة الغياب والحضور، مع المبالغة في حجم الوجه بالنسبة لمساحة مختزلة لجسد مختزل، ونجد كذلك الأطراف العلوية والسفلية، أي أمتاكن الفعل والحركة، وهي ممارسة ومقاربة تشكيلية على علاقة بطقوس الرسم الأيقوني نجدها في المنمنمات السريانية، الذي مارسه لفترة غير قصيرة خلال مسيرته الفنية. والتي أنهت وألغت الجسد لصالح أسطورة الحياة الروحية
“ويمكننا أن نؤرّخ لمسار طويل من تاريخ نسيان الجسد، بوصفه الوجه الأبرز لتاريخ في الميتافيزيقا الأفلاطونية-المسيحية.”[7] نرى الجسد متغلغلاً ، منتشراً، منتشياً ومصغياً للعبة الرقص فهو لم يعد جسداً بل أثيراً،جسداً تشكيلياً أسطورياً ، يتفاعل ويتماهى مع أجساداً أثيرية الوجود، تتحرك كعاصفة ألوان مضطربة لاتملك مساحتها على هذا العمق القصير المدى. أخفت بنية العمل وتأليفه نتيجة اندماج الأشخاص المرسومة في خلفية اللوحة، يميزها الخط الذي أصبح مساحة للعبور من الجسد إلى بوابات الروح، تذكرنا برقصة المتصوف حين يدور ويدور ليأخذ من بركات الله ويوزعها على خلقه، هي حالة من التخمر، تصيب الراقص في ذوبان ذاتي
للانقضاض على التجرد، فالزمن يتحول إلى أمجاد على موسيقى الكون الملائكية، يقول نيتشه: (إن ما يجب أن أؤمن به يجب أن يكون راقصاً)، وهو يعتبر الرقص معرفة الوجود المرحة، والرقص هو عنفوان الجسد والتحدي لرتابة ايقاع الوجود. والرقص إلى حد الانتهاء.
جلال الدين الرومي( إن من يعرف قوة الرقص يحيا في الله).
يستخدم الفنان الياس الزيات أشكالاً وألواناً ذات أبعاد دلالية كثيفة ، فالرقص لغة الجسد، خطاب الجسد لمجالات جسدية أخرى ، لغة تواصلية تفرضها اللحظة المعاشة رقصا، لأنها تخرج مافي الكوامن وتفصح وتحرر. ولتجسيد الفكرة المتعالية يعيد الفنان ترتيب نظامه الرمزى .في محاولة لإخراج العمل الفنى موفقاً بين إيقاع نفسه وإيقاع الطبيعة، فتبدو الأجساد الممثلة في لوحات الرقص والمدينة في تلاحم وتداخل شكلي كبير، لأنها منجزة لتمثل الفكرة المتصورة تشكيلياً، لتمثيل الحركة ذات الإيقاع السريع والمتوتر على محمل ثنائي الأبعاد، لتتلاشى صورة الجسد على حساب الفكرة أو المنجز التشكيلي. في محاولة لإشباع التصور العملاق لفكرة عملاقة، وهو تلاش كما بيننا سابقاً ذو أصول دينية أسطورية فالجسد يتجاوز كينونته مبحراً في المتخيل الأسطوري كما تتجاوز الفكرة التشكيلية أبعادها المادية. فلا نستطيع الامساك بالشكل أو بالخط، يقول
رولان بارت( حيث لاتظهر الأجساد معبرة عن الرقص فهو (الجسد) بدأ معاشاً من الداخل وليس لإحداث أثر خارجي).
وإذا كان الرقص يحفر الأرض ليصعد للسماء .. فالمدينة تهدي فضاءاتها لايقاعات نبيلة لأنواع شتى من الرقص، محاكاة لإيقاع كوني مهيب، فهي الكائن الحي كما عرفها لوكوربوزييه، هي الحجارة والناس.وهي تدعو للرقص في كل أنحائها، رقصا فردياً اوجماعيا، احتفالياً أو تمثيلياً…….وهو بذلك يعيد ترسيمات المغامرة الأسطورية للجسد الراقص أياً كان. كدليل على وجودها واستمراريتها في عصرنا الحاضر.
يبدو في لوحته الرقص والمدينة دراسة رقم 1،2، كل شيء راقص، ينتفي الزمان والمكان ويحضر حصانان وجزء من شجرة وأيد كثيرة تحيط بالراقص الطائر في الفضاء،
لايوجد مدينة محددة ولا جسد واضح للراقص، وتلك إشارة إلى الزمن الأسطوري الذي تحدده صور الأشكال فقط بأنه ينتمي لعصر سابق، ما عدا صورة الشخص الراقص، فلا دلالة واضحة إلا اختزال الجسد، الذي يحيلنا إلى اعتبارات شتى، ولكن الفنان الياس الزيات استطاع خلط تلك المعطيات بمهارة، ليمزج بين زمنين أو هيمنة القديم على بعض مفاصل الزمن المعاصر. إنه يضعنا في إطار تساؤلات تقحمنا في إسطورته عن الرقص والمدينة.
يرسم الياس الزيات المدينة الأسطورة المدينة المقدسة، المؤلفة من الحديد والحجارة، وهي مدينة خالية أحياناً، مدينة تمتلك شاطئاً سكنته عدة حضارت قبل الميلاد وبعده، وبحراً حضارياً بطبعه، بحرا خالداً وراقصاً هو الآخر. وهو يقول في ذلك:
“هكذا بالنسبة للعمارة السورية القديمة، بالنسبة لي عمارة اللوحة تأخذ بعين الاعتبار بناء المدينة كجسد واحد، يملكها الإنسان يعيش بها وتعيش به، ليس بالمعنى المادي للكلمة بل بالمعنى الإنساني للمدينة، الإنسان والمدينة في لوحتي يمتلكان ذات الروح ويتحركان عبر الزمان.“.
ويقول أيضاً:
لوحتي هي مدينة وإنسان، وبالتالي لايحصل أن تتحول المدينة إلى جسد أو إنسان و تتحول الأجساد إلى واحد و تصير المدينة جسداً إلا في عالم الأسطورة، عالم التعارض مع العقل والمنطق. رسم الياس الزيات أيضاً حالة الصلب وأخرجه من مفهومه الديني إلى مفاهيم أخرى، وبالتالي كيف جعله مفهوماً حياتياً متغيراً إلى حد كبير.
فقد رسم الإنسان المصلوب كثيراً، لكن في المراحل الأخيرة من أعماله تحرك هذا المصلوب ونزل عن الصليب إلى أرض المدينة ليرقص من شدة ألمه، من شدة نشوته
الصوفية، ورغم الألم الشديد إلا أن هناك حالة خاصة يعيشها هذه المصلوب، بمعانٍ أخرى هناك أشياء أشد إيلاماً من الصلب.
لقد وضعتنا المعاصرة ، أمام خيارات المواكبة لمنجزات العلم التي أصبحت تتسم بالانجازات الأسطورية، أو الانكفاء على الذات التاريخية وأمام هذا التحدي ، يكون الفن هو المؤهل الوحيد لمهمة خلق التوازن والانسجام بين الذات والذات.
نتائج
نخلص مما سبق ان الفنان الياس الزيات قام باستلهام الأسطورة الدينية ، وأعماله أساطير وحكايات تتظاهر فناً، وموضوعا وتقنية وبنية وتاليفاً ولوناً، اما مادية العمل الفني فهي تنحو نحو تقشف المتصوفين فاللون يحتمل شفافية عالية للتعبير عن روحانية متعالية عن الزمان والمكان، ليحيلنا إلى فردوس لوني ونوراني صاف. وفي مقارنة سريعة لماهية الأسطورة والحكاية الدينية والفن المعاصر، نجدهم جميعاً يشتركون في عنصر اللازمنية والطقوس والمنحى الخيالي وصناعة الصورة حسب ادوات كل عنصر، وتجاوز الواقع ، وخلط الواقع بالخيال. يستدعي الانتقال من الصورة اللغوية إلى الصورة التشكيلية، ومن المفهوم النظري لانتاج الصورة ، مخزوناً تراثياً ضخماً تشبع به الفنان الياس الزيات، مستعيناً بخيال خصب، ويد متمرسة في مد الألوان واستنطاق تعبيريتها كما في موضوع الرقص والمدينة.
عند الياس الزيات لانعلم أين تبدأ الأسطورة وأين ينتهي الفن. أو اين يبدأ الفن وأين تنتهى الأسطورة.
المراجع
[1] – فراس السواح : فراس السواح كاتب ومفكر وباحث سوري في المثيولوجيا وتاريخ الأديان ولد في مدينة حمص السورية عام 1941 يعمل كبروفيسور في جامعة بكين للدراسات الأجنبية، منذ عام 1976، مختص بدراسة الحضارة العربية وتاريخ الأديان في الشرق الأدنى. نشر 26 كتاب عن الأساطير، والتاريخ، وتاريخ الأديان.
[2] – دورا أوروبوس –الصالحية: مدينة أثرية سورية تقع في بادية الشام قرب دير الزور. وتضم أول كنيسة منزلية في العالم، ورسومات كنيس يهودي.
[3] – معلولا: مدينة محفورة في جبل يقع على مشارف مدينة دمشق، كل حجر فيها يروي أسطورته.معنى اسمها (المدخل).مازال سكانها يتحدثون الآرامية.تشتهر بوجود معالم مسيحية ترجع للقرن العاشر.ق.م.تتميز بوجود الفج الصخري الذي يروي هروب القديسة مار تقلا من الجنود الرومان، ولأن المسيح أراد حمايتها ، فأنشق الصخر وأصبح الرومان في جهة والقديسة في جهة أخرى كما تتميز بوجود خلوات للعزلة والتعبد محفورة في الجبل.
[4] – الإله ميترا: وهو إله إيراني قديم، تشير معظم الدلائل على أصوله الهندو أوربية، فقد تاثرت عبادة ميترا بعلم النجوم الكلداني الذي ترعرع عند مجوس آسيا الصغرى وما حولها وهي العبادة التي تعد ميترا إله الشمس، فكانت الشمس دائماً رمزاً للنور ومنها النهار ومقره الشمس،وهو معروف منذ عصور ما قبل الزرادشتية وقد تسللت عبادة ميترا الإيراني إلى روما وهناك عرف باسم ميترا. وكان السومريون والأكاديون والكلدانيون اول من عبد الشمس تحت قواعد دينية منظمة، فأسسوا المعابد له وكانوا يوقدون في المعابد ناراً لاتنطفئ تكريماً له.
صفاته ورموزه و أعياده يعتقد أصحاب هذه الديانة أن ميترا مصلح عظيم بين الله والإنسان، وقد ولد في كهف في 25 كانون الأول/ديسمبر ـ وهو يوم الانقلاب الشتوي ـ من أم عذراء، ونشأت عبادته في المغاور والكهوف ورمزه النور والشمس، ومات في سبيل خلاص الشمس ودفن، وقام مرة ثانية من القبر وأحيي عند قيامته باحتفال عظيم. وكانت أعياده يوم الانقلاب الشتوي 25 كانون الأول/ديسمبر، وهو يوم ولادته. ويوم النوروز(الاعتدال الربيعي) وهو يوم قيامته ويوم الأحد وهو يوم الشمس من كل أسبوعها. تقلصت الديانة الميتروية في العديد من البلدان بسبب انتشار الديانة المسيحية، فلم يكن انتقال أتباعها إلى المسيحية أمراً صعباً، فالعقائد والطقوس والأحكام الدينية متشابهة والمسيح نور العالم وميترا اله النور حتى يخيل للناس أن الديانة الواحدة مشتقة
من الأخرى، فلذلك تغلّبت الديانة المسيحية تدريجياً وبسهولة على الديانة الميتروية في البلاد اليونانية والرومانية فزاحمتها حتى رفعتها من الوجود وحلَّت محلها، فكان المسيحيون يمجِّدون السيد المسيح في الأيام التي كان عُبَّاد ميترا يمجدون فيها
إله الشمس. المصدر الموسوعة العربية lang=AR-SY style=’font-size:13.0pt;font-family:”Simplified Arabic”‘>محمود فرعون.
[5] – Goffman, Erving, La Mise en scène de la vie quotidienne, t. 1, La Présentation de soi, éd Minuit, c (…)
(6)- موضوعات الرقص في جداريات مصرية قديمة، د.محسن عطية.
7- مهنانة اسماعيل: ميتافيزيقا الحداثة : تاريخ نسيان الجسد.. المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية”.