الحرف/ النص، الحرف/ الصورة

تتحدد أهمية هذا البحث ( الحرف/ النص، الحرف / الصورة) كونه يطرح تساؤلات في الصيغ العلائقية بين الحرف المكتوب والحرف المرسوم والخط العربي واللوحة المسندية والحروفية، لاسيما أن جميعها ينضوي تحت صفة المنجز المادي والمرئي، حيث نجد أن الكتابة، بقيت تنجز في فضاء، يعتبر أصلاً فضاءً تصويرياً إذا لم نقل حاملاً تشكيلياً، لأن السياق التاريخي لهذا التمظهر، يرجح أطواراً ثلاثة هي: الصور الصوري أي التعبير عن الشيء والاستدلال عليه يتم برسم صورته، والطور الرمزي أي استخدام العلامة، والطور الصوتي، الذي استخدمت فيه العلامة لأجل صوتها، وهي انتقال من المحاكاة إلى أعلى مراحل التجريد، بحيث تترك العلامة أثراً مادياً مرئياً.

يطرح المنحى الآخر للبحث أشكال الفضاءات التصويرية، حاملة الأثر الخطي، والبناء التصميمي لهذه الفضاءات، أي المساحات المعدة للكتابة، مع مقاربة جمالية تتعلق ببعض العينات من منمنمات وأوراق بعض المخطوطات ولوحات خطية، وما تمتلكه من إمكانيات إبداعية على مستوى البناء والتأليف والعناصر( الحروف المكتوبة وطرق وأبعاد تمثيليتها ). قديماً وحديثاً.

تدلنا معاجم اللغة العربية في بعض تعاريفها عن الحرف العربي او الحرف اللغوي، نذكر منها تعريف ورد في معجم لسان العرب وهو:“الحرف من حروف الهجاء معروف واحد (حروف التهجي) والحرف الأداة التي تسمى الرابطة لأنها تربط الإسم بالإسم والفعل بالفعل مثل( عن ، على……) وقال الأزهري، الحرف هو كل كلمة بينت أداة عارية في الكلام لتفرقة المعاني واسمها الحرف وإن كان بناؤها بحرف أو فوق ذلك مثل، حتى، لعل، هل…..إلخ)1.

هذا يعني ان الحرف اداة تتصف بالتجريد، وان الحرف يقرأ ولايحمل معنى في ذاته ولذاته، مالم يتوسط كلمتين أو أكثر، وكتابة حرف واحد على حيز ما يؤدي إلى حركة بصرية وإلى تقسيم الفضاء المعد للكتابة أو الرسم لمساحات سلبية وإيجابية، تحمل شحنات تعبيرية سواء كان هذا الحرف ذو بعدين أو ثلاثة أبعاد.

توجد الحروف عادة متعالقة متصلة لضرورة لغوية أو زخرفية، وهذا التعالق مبني على اعتبارات وظيفية تتعدد في مصادرها واتجاهاتها، وتكون جمالية او لغوية، وهي في كل الأحوال تؤلف نصاً أو أثر لنص أو جملة.

نجد في معجم المصطلحات في اللغة العربية والأدب، “تعريفاً للنص من حيث هو الكلمات المطبوعة أو المخطوطة التي  يتألف منها الأثر الأدبي او هو كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة”2

نلاحظ هنا كيفية الانتقال من المجال السمعي إلى المجال البصري، أي تحويل الصوت إلى كتابة، أو مانسميه كتابة الصوت، الذي تتحول فيه الأصوات إلى صور، قالبة للقراءة البصرية، ما يشكل حيزاً بصرياً، فالنص يعتبر اتصالاً بصرياً بين متلق ومبدع.

يبدو من التعريفين السابقين، بروز مفهوم الصورة كمعطى بصري للنص أو الحرفـ، الذي يدفع بنا إلى طرح تساؤلات كثيرة أهمها:

تحت أي مبحث يندرج فن الخط العربي ابتداءاً من الآثار الكتابية الأولى في صدر الإسلام إلى وقتنا الحاضر، وهل اكتفى  الخط العربي أو الحرف العربي، بتمظهراته الشكلية داخل فضاءات حيادية في غالب الأحيان، ولماذا يندفع الفنانون الخطاطون نحو تناولات جديدة للحروف، وهل تمثل الاختيارات العديدة صراعاً بين أصالة وحداثة؟..

إن هذه الحيرة ناتجة عن ممارسة معينة للخط العربي في البلاد العربية، تقتصر على اللوحات الخطية المقرءة، حيث يعتبر فن الخط ذو خصوصية، يدافع عنها الخطاطون على اختلاف نوعية الخط الذي يكتبون، لكن إشكالية توقف الاجتهاد أو الاكتفاء بالأساليب الخطية في فترة تاريخية معينة، وافتقار الحرف العربي إلى التجديد منذ أفول المدرسة العثمانية، كذلك ظهور الحرف المطبوع وظهور برمجيات الحاسوب الخاصة بالخط العربي، حولته إلى قوالب كتابية جاهزة معدة سابقاً، بفضل الحاجة والانتقال الحاسم من ملكة اليد إلى الآلة الطابعة.

نعود لنسأل لماذا أهمل العرب الخط بعد ثلاثة عشر قرناً وهم مبدعيه؟…

يقودنا هذا التساؤل للرجوع إلى بعض الأعمال الخطية الأولى، التي تم إنجازها في القرون الأولى للهجرة، لنبحث في أسسها الجمالية، ونلمس مقدار التصرف بالحرف العربي والكلمة والنص، تصرفاً زخرفياً إلى درجة الإبهام وعدم المقدرة على مواكبة المعنى المقصود الذي كتبت لأجله، وبالتالي ترجيح الجمالي على اللغوي، ليتحول النص إلى منجز فني، أدى به التحوير والمغالاة في الزخرف إلى الالتباس والغموض في الوظيفة اللغوية التي من شأنهاالإفصاح عن معنى، لتصبح الكتابة معطى بصرياً في جوهرها،وهده الأعمال أنتجت في القرن الثامن للهجرة، منها كتابة كوفية داخل إطار من مصحف في تطوان موجودة في غرناطة.

كتابة كوفية داخل إطار من مصحف في تطوان موجودة في غرناطة
نموذج من كتابة كوفية معقودة

توضح الصور السابقة أنواعاً من الكتابة الكوفية، تميل نحو الزخرفي إلى درجة التماهي معه داخل المساحة المشغولة، وهي ذات مدخل لغوي لغرض القراءة، لكن كثرة المحسنات التزويقية جعلت الجانب الجمالي يطغى على الجانب اللغوي ووظيفة القراءة. 

خط الثلث الجلي
كتابة لوحة بخط الثلث الجلي رفيع من كتابات الخطاط عبد القادر سنة 1342ه، نصها سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وكذلك في أركانها وكذلك

نرى في هذه الصورة توظيف مغاير للحرف أو الكلمة، يحل محل الزخرفة في زوايا الإطار الأربعة بشكل زخرفي، لجأ فيها المصمم إلى استعمال عمليات كثيرة لإضفاء التنوع مع الحفاظ على الوحدة في العمل الفني، وهي جمالية إسلامية،ظهرت من خلال ارتباطات معقدة لحروف النص المكتوب داخل اللوحة الخطية، لتحقيق هدفين أساسيين هما إحداث الجاذبية ولفت الانتباه، كتابة ولوناً، لأن مصمم اللوحة الخطية استخدم الأبيض والأسود اللذان يؤديان إلى حركة بصرية قوية نظراً لتباينهما الشديد، أي يتم الحصول على تأثير الجاذبية ولفت الانتباه من خلال التقنية التي أساسها الوحدة والتي تمثل هدف التصميم، والوحدة المتحققة هي كلاً شاملاً شكلاً وأسلوباً وفكرة على أساس تماشي حركة العين مع حركة الخط وامتداداته، وهذا لايتحقق وظيفياً إلا بإحداث التنوع ضمن فضاء تصميم اللوحة الخطية، وذلك بتنظيم الخطوط( تداخل ، تراكب، تشابك)، وإمكانية إظهارها مما يعطي تأثيرات واضحة لتقسيم الفضاء.

يتجه الخط نحو تراكيب مغايرة للحروف ، فتظهر الطغراء التي تشبه البصمة وهي تعتبر خاتماً أو توقيعاً لسلاطين عثمان في القرن الخامس عشر ميلادي وهي أشبه بالتراكيب الشكلية التجريدية.

الطغراء

تعد الأمثلة السابقة لوحات خطية ذات مدخلين لغوي وبصري، وأحياناً مدخلاً بصرياً فقط، لايوجد فيها مساس بقواعد الخط العربي أو أساليب كتابته المختلفة، لكن الأسلوب التصميمي للخط يعتبر زخرفياً بحتاً ، لتلاؤم صيغ الخط مع الصيغ الزخرفية، لاشتركهما في عنصر الخط.

إن اشتراك الخط والزخرفة في تصميم نص مقروء قد يدفع المتلقي للبحث عن المعنى، نظراً لطغيان العناصر الزخرفية، وهذا يتقاطع مع بعض الممارسات التشكيلية لفنانين عرب معاصرين تم تصنيفهم في مجال الخط بأنهم خطاطون تشكيليون وذلك لجمعهم بين الخط وتقنيات اللوحة المسندية الحديثة.

  تتقابل التصميمات الخطية المعاصرة في كثير من الأحيان مع تصميم المساحة المعدة للكتابة في مخطوط مع فارق مقروئية النص المكتوب، الذي يُقرأ المتن فيه بصعوبة تامة وكذلك الهوامش التي تؤلف بدورها نصوصاً لها مساحتها على ورق المخطوط. وهو نهج سار عليه الحروفيون العرب المعاصرين، الذين تجاوزوا الأساليب والقواعد المتبعة في كتابة الخط العربي، فكانت لهم مغامرتهم الحروفية التي اعتمدت تعبيرات وإيحاءات ومفاهيم غيرت من ماهية الحرف العربي واعطته بعداً تصوفياً، فتحولت علة صعوبة القراءة إلى تشكيلات حروفية غير قابلة للقراءة نهائياً، فبدت اعمالهم كآثار نصوص مكتوبة، أو أثر لأشكال مرئية ألفت فيما سبق نصاً له مقروئيته، فتتحول الحروف إلى محركات ديناميكية للفضاء التصويري. 

حروفية ، نجا المهداوي، تونس
ورقة من مخطوط عربي في علم الهندسة والفلك

احتفظ ” نجا المهداوي” بإيقاع الحروف داخل الفضاء التصويري، الذي يؤلف نصاً تشكيلياً، تم إعداده لقراءة  جمالية للطاقات التعبيرية المختزنة للحرف العربي، فهو النص الذي يستعصي على القراءة وينتقل إلى التذوق الفني.

استخدم الخط العربي في العمارة الإسلامية قديماً وحديثاً، حيث نجد في ضريح “تاج محل” في الهند أيات قرآنية منقوشة على المدخل الرئيسي المقوس يطريقة التدرج في الحجم، فقد راعى الخطاط أثناء كتابة الآيات، أن يسهل رؤية وقراءة الآيات وقراءة الحروف من مسافة بعيدة، فاستعان بخداع البصر، فكلما ارتفع مكان الكلمات تم تكبير الخط بشكل تدريجي، وبالتالي من يقف من بعيد أمام المدخل يلاحظ أن الآيات تبدو واضحة ولاتتفاوت في أحجام الحروف على الرغم من وجود كلمات تتفاوت في علوها أمتار عن كلمات أخرى.

إن فكرة ترصيع العمائر الإسلامية بالخط العربي، لم تقتصر على زمن بعينه فقد أنتج الحروفيون العرب لوحات خطية معاصرة، وظفت الخط العربي على عدة محامل،أنزلت  هذا الفن وممارسته وتذوقه إلى الجماهير العريضة، لنجد أعمالاً خطية على بيت قديم أو شارع شعبي او قبة ، في محاولة طريفة لتوظيف إيقاعات الحرف العربي وحركته، بما يتناسب مع التصورات الميتافيزيقية للفكرة التشكيلية عند الفنان العربي المسلم 

لانتعسف إذا انجزنا تلك المقاربة بين الحرف/ النص، والحرف/ الصورة، إذ تلتق تلك المفاهيم وتنجز أعمالاً خطية أو خطية تشكيلية، وفي تلك المقاربة ندحض بعض الادعاءات التي تقصر زمن إنتاج اللوحة الخطية أو الحروفية إلى عصر الحداثة وكأنها صدى لتلك الفترة، دون البحث عن شخصية فنية مستقلة، بعيدة عن تجاذبات الأساليب الغربية للفن  التشكيلي، ما دفع بعض الفنانين إلى التمرد على مفهوم اللوحة المسندية والبحث عن محامل أخرى للوحة الخطية، أما التسميات والمصطلحات التي تطالعنا بها الأبحاث الجمالية للحروفية، فلم يقع الاتفاق عليها، خاصة وأن الممارسة التشكيلية للخط العربي  والحروفية العربية، كانت متناثرة في غير بلد عربي وهي تجارب لاتعتبر امتداداً لبعضها، حيث لكل فنان رؤيته الخاصة.

نستطيع القول أن التعبيرات المتنوعة للحروفية، أثرت في الذائقة العربية المحلية والعالمية، وبلورت أساليب تتجه نحو الحرف /الصورة، أكثر من الحرف/ النص الذي حافظ على طرق تقديم كلاسيكية.ونستطيع القول أن الحرف العربي وحركته أو أجزاء منه أخرجت مكامن التجريد بكل أنواعه، فلا نستطيع القول أن الحروفية العربية نهج تشكيلي على هامش االتجريد.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You cannot copy content of this page

X