جناح الفن الإسلامي بقصر باردو . تونس

محاولة في جمالية الفن العربي الإسلامي

محاولة في جمالية الفن العربي الإسلامي

المؤلف: أ.د.حبيب بيدة أستاذ الجمالية وعلوم الفن في المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس.

    ما هي العلاقة بين الفن العربي الإسلامي ومفهوم الجمال عند العرب المسلمين؟..فالفن كإنتاج وظيفي استعمالي أو زخرفي يتجه حتماً إلى عين أو أذن مدركة مستلذة وبالتالي وجب أن يكون كل فن متميزاً بالخصائص الجمالية، التي تؤدي إلى هذه اللذة البصرية أو السمعية، فهل كان الفن العربي كذلك؟..وما هو وجه الارتباط بين مفهوم الجمال النظري والممارسة الفنية العلمية عند العرب المسلمين؟..

نود قبل الكشف عن ذلك أن نحاول البحث في مفهوم الفن عند العرب، فقد نكشف في شحنته الباطنية عن علاقة خفية بينه وبين مفهوم الحسن، الفن لفظ له دلالة تتطور كأي دلالة أخرى بفعل تطور مدلولها المتحول حسب التغير الحضاري الذي يقع في مستوى النشاطات والأفكار التي تؤطر هذه النشاطات وتنظّرها.

  وللأسف أننا عندما نفتح ملف الدراسات التي أنجزت في محور الفن العربي الإسلامي وأسسه الجمالية، نجد سيطرة واضحة للدراسات الغربية والاستشراقية حول هذه المسألة مما أدى بكثير من الدارسين إلى الاعتماد على مقولات الغرب، وتوليتها اهتماماً متزايداً سواء بترويج ما جاء في هذه المقولات أو ترجمتها. ولا أحد ينكر مدى الفائدة المنجرّة عن ذلك، مهما كانت نوعية الآراء وآفاقها، فإنها تساهم في تقدم البحث العلمي في هذا المجال الواسع، الذي لا يزال لحد الآن حقلاً في حاجة إلى العمل والعطاء. لكن إذا وصل الأمر إلى حد اعتماد هذه المقولات وعدم محاولة نقدها والوقوف عند ما تقدمه وقفة تأمل، فذلك من شأنه أن يحيد بنا عن السلوك العلمي الذي يستوجب دائماً الفحص وإعادة النظر مهما كانت قيمة صاحب الآراء المعروضة وقيمة أطروحاته.

    وإن ما يلفت الانتباه نتيجة الاعتماد المبالغ فيه على دراسات الغرب الاعتقاد السائد في أوساط بعض المهتمين بدراسة الجمالية عامّة، إن تراثنا الفكري والجمالي” محصور في الفكر الأدبي وحده وليس فيه من معطيات الفكر الفني خارج حدود الأدب ما يغني بقليل أو كثير لأنّ معظم النتاج الفني في تراثنا العربي إن لم نقل كله لم يتوزع على غير الأدب من أنواع الفنون الجميلة الأخرى كالرسم والرقص والنحت والموسيقى”[1] تأتي هذه الإشارة في كتاب الجمالية عبر العصور لمترجمه ميشال عاصي وأنها لتتركنا مدهوشين حيث أن إطلاق هذا الحكم على تراثنا العربي من شأنه أن لا يكلف الباحث المتحمس عناء البحث في هذا التراث عن الأسس الجمالية لروائعنا الفنية على امتداد تاريخ الحضارة العربية، وكأن هذه الروائع لقيطة وقد أنجزت عفوياً واعتباطياً دون تصميم ودون الاعتماد على أية قاعدة فكرية. ويدفع مريد الكشف عن الجمالية أو الفكر الجمالي إلى النهل من الأدب الجمالي وكأنه الوحيد المشروع نظرية وممارسة، إن إطلاق هذا الحكم لنكران لجهود المفكرين العرب، الذين لا يزال إنتاجهم الغزير قابعاً في رفوف المكتبات مخطوطاً، والذي يفسر بحق لكل متعمق أن مس الجمالية لجل أنواع الفنون العربية الإسلامية وقد حكم السيد ميشال عاصي انطلاقاً من بحثه الضيق في هذا التراث بأننا ” حرمنا هكذا من معطيات الفكر الفني الذي لا تقوم الجمالية إلا بتوافره الكثيف من جهة وبتوازنه مع الفكر الأدبي من جهة أخرى في وحدة بنائية وتماسك منهجي يضعانه في مستوى الفكر الفلسفي أو فلسفة الفن والأدب”[2] ونعتقد من ناحيتنا أن حكمه هذا نابع من عدم معرفته لهذا الفكر وعدم التحامه بفلسفته. إذ الحقيقة أننا لم نحرم من معطيات هذا الفكر بل حرمنا أنفسنا نتيجة انسياقنا وراء مقولات الغرب، إذ كنا أتباعاً لمفكريه نعتمد عليهم  في كل ما يهم تراثنا الفني ودأبنا على ترجمة مقولاتهم عوض تحقيق ذاتنا بغوصنا العميق في معرفة تراثنا وإثراءه، فبماذا أفادتنا دراسات الغرب حول جماليتنا العربية الإسلامية وماهي المقولات التي روجتها حول إشكالية الفن العربي الإسلامي.

   عندما يعالج الفن العربي الإسلامي فإن المسألة الأساسية التي تبرز لأغلب الباحثين فيه هي أن كيان هذا الفن قد تكون نتيجة للمنع “ويتفق أغلب المستشرقين الغربيين وبعض الباحثين العرب على ذلك ويتوسعون في بحث هذه القضية ويخرجون بنتيجة هامة وشاملة حسب رأيهم وهو أن  “منع الإسلام للتصوير التجسيمي والتشبيهي قد جعل الفن العربي الإسلامي يعيش منذ وجوده حالة قمع أدت به إلى عدم النضج”[3] ويبدو هذا الرأي نتيجة للاعتقاد بأن الفن التشكيلي كما عرفته الشعوب في الغرب هو الصورة المشروعة للفن والتطور الطبيعي له. ولذلك، وانطلاقاً منه يجب تقييم بقية الفنون وهي لعمري نظرة خاطئة تعبر عن فكر عنصري واضح، يعتقد من خلاله أن لا فن إلا فن الغرب ولا يمكن أن يكون للفن مفهوم آخر غير المفهوم الذي اتخذه الغرب. أما الأمر الثاني فيتعلق بتعليل سبب عدم ظهور الفن التشكيلي في البلاد العربية يمنع التصوير التشبيهي، الأمر الذي أدى إلى فسح المجال لتطوير الخط العربي وتبني أشكال الرقش أو ما يسمى بالأرابسك والاهتمام بهما متزايداً على حساب بقية الأشكال الفنية الأخرى، وبهذا نفهم من مقولات هؤلاء الباحثين أن الفن الغربي الإسلامي فن زخرفي بالمعنى السطحي أي تزييني لاغير وهو فن متخلف عن مفهوم الفن التشكيلي الغربي.

وهناك من الباحثين الغربيين من تجاوز القول بهامشية الفن الغربي الإسلامي، بعد أن اعترف بشرعية شكله الخصوصي ولكنه لم يتجاوز التفسير الكلاسيكي، الذي يرجع هذا الفن  إلى مسألة المنع أو مقولة التحريم. ومن هؤلاء الباحثين الغربيين الفرنسي “إيتيان سوريو” الذي يقول في كتابه “الجمالية عبر العصور” أنه “لا يفوتنا  التأكيد على نقطة ذات أهمية بالغة وهي غياب الفن التصويري وانعدام الرسوم التجسيمية من جهة وطغيان الفن التزييني، المرتكز أساساً  على أشكال تجريدية غربية ولقد درجت العادة في تفسير هذا الواقع على الزعم بأنه نتيجة تحريم القرآن للرسوم التي يتمثل فيها الوجه البشري وللفن التجسيمي بصورة عامة بحيث أن الإسلام قد كُتب عليه بالنتيجة أن يقتصر الأمر فيه على الرسوم الهندسية التجريدية، والحقيقة أن وضع المسألة بهذا الشكل بعيداً عن الصواب إذ ليس ثمة في القرآن تحريم قاطع من هذا النوع”[4] .يشك إيتيان سوريو في عدم صحة مقولة التحريم حيث أن لا وجود لهذا الأمر في دستور المسلمين الأول ولكنه لا يجد تفسيراً لغياب الفن التجسيمي وطغيان الفن التجريدي إلا في ” أن الروحية الإسلامية تحترس على الأخص من مخاطر الفن التجسيمي وتجد لها ضمانات كبرى في استعمال الفن التجريدي”[5]

ونعتقد أن هذا التفسير لا يختلف كثيراً عن التفاسير السابقة، فما هو الفرق بين مقولة المنع التي أدت إلى طغيان الفن التجريدي وبين مسألة الروحية الإسلامية التي تحترس من الفن التجسيمي وتجد ضمانات كبرى لها في الفن التجريدي.

 ولايشذ الدكتور “ألكسنر بابا دوبولو” عن رأي إيتيان سوريو وقد كتب أطروحة في موضوع جمالية الرسم الإسلامي أساسها يتلخص في قوله ” أننا نستطيع التأكيد في آن واحد أن الفنان المسلم قد اخترع جمالية الفن الحديث قبل ستة أو سبعة قرون وأنه بفضل تحريم تمثيل الأحياء وبفضل فقهاء الحديث الذين لم يكونوا يفهمون شيئاً عن الرسم قد عرف أن جوهر كل فن وقانونه الأسمى هو أن يكون عالماً مستقلاً  وأن لا يخضع إلا لمنطقه الخاص وذلك ما يعلنه عالياً مجموع الرسم الإسلامي”[6] .

إذن فمسالة المنع أو تحريم الصور التجسيمية  هي الأساس  الوحيد لتفسير الجمالية العربية الإسلامية والفن العربي الإسلامي وكأننا بالباحث يقول أن هذه الجمالية  قد حدثت صدفة لا عن رؤية وتفكير. ورغم وعيه بأن للمسالة أساساً آخر يرتبط بفكر عميق جعله ألكسندر بابا دوبولو ثانوياً، ويأتي بعد مسألة المنع أو كنتيجة لها- وهذا ما يدعو للعجب فعلاً- نقول رغم وعيه بهذا الفكر الذي أطّر الفن العربي الإسلامي، فإنه جعل الفنان المسلم يطرح على نفسه سؤال شكسبير ” نكون أو لا نكون” وهو سؤال – حسب تعبيره- اضطرت التحريمات الفنانين إلى طرحه.ويتسائل ” فهلا يمكن القول أن الرسام المسلم استطاع الإجابة عن هذا المشكل الأساسي بصورة رائعة وأنه لم يفلح في إباحة فنه سلبياً فحسب بل حوله إلى طريق صوفي لنفسه ولكل من يرى في الصورة أكثر من مجرد عالم ممثل وفي هذا الحد تنتهي ملحمة الرسم الإسلامي”[7] لا ننكر أن أطروحة الدكتور “ألكسندر بابا دو بولو” قد فتحت آفاقاً جديدة لإعادة النظر في الفن العربي الإسلامي وفي مختلف أشكاله لكنها تنطلق من مسألة منع التصوير التجسيمي والتشبيهي ومنع محاكاة الطبيعة بصورة عامة حيث يقول في كتابه “لذلك لا يمكننا سوى اعتبار الأعمال نفسها والسمات الموضوعية التي تبديها حتى نحكم بمطابقتها لمقتضيات جمالية إسلامية أي باحترامها الأساسي لتحريم الكائنات الحية والطبيعية بصورة عامة”[8] وكان الوعي الصوفي الذي يمارس وفقه الفنان عمله ثانوي بالنسبة لهذه القاعدة وهو لعمري الخطأ الذي وقع فيه الباحث بابا دوبولو حيث أنه لم يتعمق في رؤية هذا الوعي ودراسة علاقته بالفن العربي الإسلامي وكيفية ارتباط عناصر هذه العلاقة ولم يدعم آراءه بشواهد جدية من التراث العربي، كما أنه اهتم بهذا الوعي في علاقته بالرسم ولم يتناوله في علاقته بالخط العربي مثلاً وهو الذي لا ينفصل عن الرسم كشكل من أشكال الفن العربي وجعله كأغلب الباحثين ملاذاً للتعويض عن الرسم التشبيهي.

    إن اعتبار قضية ” المنع الديني” للتصوير التشبيهي ولمحاكاة الطبيعة بصورة عامة لتكون أساساً لأشكال الفن العربي الإسلامي ومن بينها الخط والرسم والزخرفة ليقلل من شان الفنان العربي المسلم ويجعله في مكانة المكتشف صدفة جمالية يوفق بوساطتها بين ما تستوجبه العقيدة من ناحية وما يفرضه الدفاع عن شرعية وجوده وإباحة فنه من ناحية أخرى. وعن الرأي بأن هذه الجمالية كانت بفضل رجال فقهاء الحديث، الذين لم يكونوا ليفهموا شيئاً عن الفن يؤدي إلى الاعتقاد بأن هذه الجمالية، تفتقر إلى الأساس الفلسفي النظري العميق وهو أمر في غاية الخطورة، نفنده بنظرنا المتفحص في الفكر العربي، الذي يمكننا من إشارات تدل على أن الفن العربي، قد ارتكز أساساً على مفهوم “المحاكاة الطبيعة” في أرقى تعبيره وفي كونها تعبر عن تحقيق الذات لا بمفهومها السطحي في الغرب.

إن السؤال الذي يطرح علينا هو: كيف نفهم هذه الإشكالية؟..

نعتقد أن الخطأ الذي وقع فيه الكسندر بابا دو بولو وغيره من الباحثين، أنهم انطلقوا من مفهوم “محاكاة الطبيعة” الذي نما في الفن والمرتبط بالفن الواقعي الكلاسيكي، الذي ازدهر في القرنين الخامس والسادس عشر، وكان عليهم أن ينطلقوا في دراساتهم من مختلف التعابير الفنية التي تمت في عالمنا العربي الإسلامي وفهمها من الداخل،أي بارتباطها  بإطارها المعرفي الذي تمت فيه.

فما معنى “الفن” بلاغياً وحضارياً في التراث العربي ؟..

بالرجوع إلى لسان العرب لابن منظور نجد عدة تفسيرات لكلمة فن، فهو من جهة حال أو حالة ومن جهة أخرى اشتقاق أو ضرب من الشيء ونقول رجل مفن أي يأتي بالعجائب وذو عنن واعتراض وتوسع وتصرف كذلك عناء وأمر عجب.

وعند النظر في كل هذه التفسيرات نجد قاسماً مشتركاً يربط بينها، وهو علاقة الإنسان بالشيء من ناحية وحاله كخلاق آت بالأشياء الخارقة للعادة، وغير المعروفة من قبل، وذلك بالاشتقاق من الشيء أي بالتوليد والاستخراج منه وما يستوجبه هذا الفعل من عناء ويظهر لنا أن كلمة فن وإن لم يذكر إلى جانبها، لفظي الحسن والجمال، فقد احتوت في داخلها على شحنة تتصل بهذين المفهومين، وهي كلمة تعكس قبل كل شيء كل عمل يقوم به الإنسان على سبيل الاشتقاق، أي عن طريق فهم جدلية الصورة والمادة في المصنوع الطبيعي، وإدراك قدرته على الاستخراج والخلق انطلاقاً من هذا الفهم، فالخط العربي مثلاً هو فن من الفنون العربية الإسلامية وهو صناعة شريفة حسب ابن خلدون ” إذ هو من خواص الإنسان، الذي يتميز بها عن الحيوان”[9].

  ويقول أبو حيان التوحيدي فيلسوف القرن الرابع على لسان بعض السلف، ” الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً”[10]، الخط والرسم صناعة والزخرفة صناعة وكذلك النثر والشعر والموسيقى. والصناعة مرادفة للعمل عند ابن منظور، وهي ملكة في أمر عملي عند ابن خلدون، كما أنها عند التوحيدي “تقتفي الطبيعة التي تقتفي أفعال النفس وآثارها”[11] والصناعة تختلف في مفهومها عن مفهوم المهنة، إذ المهنة حسب التوحيدي ” إلى الذل أقرب وفي الضعة أدخل والصناعة مهنة، لكنها ترتفع عن توابع المهنة وفي الصناعات ما يتصل به الذل، لكنه ليس من جهة حقيقة الصناعة”[12] فللصناعة حقيقة فلسفية لايأتي الذل  من ناحيتها كحقيقة تعبر عن علاقة الإنسان بالكون كوجود وإدراكه لهذا الكون وخروج مافي قوته إلى الفعل بفضل هذا الإدراك.

   الصناعة هي الفن وحسب أرسطو ” الحركة التي تنتج عن الإنسان ذي النفس الناطقة والتي تنتج عنها منتجات شبيهة بالمنتحات الطبيعية  من حيث احتوائها على المادة والصورة وتتفق مع هذه المنتجات في مبدأ الغائية أو الوظيفة النفعية الجمالية”[13] إذ الموجودات المحسوسة تكون بالطبيعة أو بالصناعة، ويبدو لدى أرسطو أن الصناعة تحاكي الطبيعة كما يبدو لدى التوحيدي ومسكويه وإخوان الصفا”[14]، يقسم إخوان الصفا الموجودات إلى أربعة أنواع: ” صناعية وطبيعية ونفسانية وإلاهية”[15]، إن هذا التصور لعملية الصنع التي تبدأ من أعلى أي من ( الحق) الله حسب التعبير الصوفي، وهو الذي يصنع النفس وتصنع النفس بالتالي الطبيعة، ويأتي دور هذه الأخيرة، فتصنع هذه الموجودات الحسية، ( المعادن والنبات والحيوان والإنسان) ويأتي الإنسان ليصنع هو الآخر وهو بذلك يقتفي فعل الطبيعة – هو تصور نابع من نظرية الفيض ( خلق العالم) التي انطلقت من الفكر الفيثاغورثي والأفلاطوني ومرت عبر أفلوطين وفلاسفة العرب في العصر الوسيط أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وأخوان الصفا، وبالتالي نفهم قول مسكويه من خلال التوحيدي بأن الصناعة تقتفي الطبيعة، التي تقتفي أفعال النفس وآثارها.

   إن عملية الصنع التي تنطلق من الصانع الأول وتمر بالنفس ثم الطبيعة حتى تصل الإنسان عملية معقدة، ونعتقد أن هذه المراحل تتفق في أنها عبارة عن إعطاء صور للهيولى أي المادة الخام، ولا يمكن قبول الصورة هنا على أنها مظاهر بل على أساس أنها جواهر وبنيات معقدة تتحاور في نسقها ونظامها الأشكال التي تصطدم بمقومات المادة ومدى استعدادها لقبولها. فمحاكاة الطبيعة في كيفية خلقها للأشياء، أي محاكاة الله عبرها هي مشكلة الفن العربي الإسلامي، وهو المفهوم الذي احتضن مختلف الأشكال الفنية العربية الإسلامية ومن بينها الخط العربي والزخرفة والموسيقى وغيرها من الفنون. وذلك حسب ما نجده في إشارة الفلاسفة العرب الذين اهتموا بهذه الفنون والمحاكاة في هذا المجال ليست كما جاءت في معجم لالاند الفلسفي ” مذهب يرى أن قوام الفن محاكاة الطبيعة أي إظهار الأشياء كما هي دون تفرقة بين قبيح وجميل”[16] بل هي مفهوم الفعل كما جاءت في لسان العرب لابن منظور، محاكاة الطبيعة من حيث هي فاعل لامفعول به، محاكاة القوة في إرادتها وقدرتها على إعطاء الهيولى صوراً حتى تصبح بالفعل. هي ما هي.  وذلك وفق نظام نتج عن إدراكه الإنسان لبنية الكون من خلال بنية الأجسام الطبيعية كالمعادن والنبات والحيوان وبنيته نفسه. وإدراك كيفيات البناء التي تظهر من خلال هذه البنيات وهي كيفيات الانتظام والتناسق والتناسب في ارتباطها بقابلية المواد التي تحتوي بدورها على طاقات بنيوية تجعلها مستجيبة للصورة التي ستعطى لها. فالمحاكاة إذن ستكون من ناحية المبدأ لا من ناحية العرض ، من ناحية كيفية البناء لا من خلال مظهرة الخارجي.

  من هذا المنطلق كانت ” الصناعة” في التراث العربي الإسلامي بمفهومها العام وكان الخط والزخرفة والرسم وغيرها من الفنون، تنضوي تحت لوائها، والمتعمق في دراسة هذه الفنون البصرية يلاحظ انطلاقاً من التحليل البنيوي لها أنها قد استجابت لقواعد تنظيمية، فنلاحظ في الخط مثلاً اجتماع الحروف والكلمات في اتصالها وانفصالها وانتظامها على حواملها واحترام مقاديرها على البياضات التي بينها وتناسب الشكل والنقط فيها، ولعل أسطع دليل على أن الخط العربي كأي فن جاء نتيجة محاكاة الطبيعة، كقوة خلاقة ماجاء في رسالة الكتابة المنسوبة التي حققها عساكر” خليل عساكر” حيث يقول صاحب هذه الرسالة  “أما سبب إعجاب الناس بها(أي الكتابة المنسوبة) فاعلم أن الأصل في الخط هو أن يحفظ صورة الكلام فينقله عن السلف ويفهم منه الغائب ما يفهمه الشاهد فينسخ به العلم وتدون به الحكم…..فلما تم لنا المراد منه لم تقنع النفس من صورة حروفه وأوضاع كلمه كما تناسبت أعضاء الحيوان وتوازنت أجزاء النبات،لأن النفس عاشقة في الجمال، مجبولة على حب الحسن وهو التناسب الطبيعي مرئياً أو مسموعاً”[17] وكذلك ماجاء في شرح ابن التوحيد في راثية ابن البواب لكلمة التصوير إذ شرحها بأنها “تشبه فعل الطبيعة فيجب أن تكون كل كلمة كالصورة متناسبة الأعضاء[18].

  فمحاكاة الطبيعة كقوة خلاقة تنضوي تحت ما يعبر عنه إخوان الصفا “بالتشبه بالإلاه بحسب الطاقة الإنسانية”[19] إذ يقولون ” إن التلاميذ والمتعلمين يحاكون في أفعالهم وصنائعهم أفعال الأساتذة والمعلمين أحوالهم الذين يحاكون العقلاء وفي طبائع العقلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة والتشبه بهم كما ذكر في الفلسفة ” أنها التشبه بالإلاه بحسب الطاقة الإنسانية”[20].

    ولم تكن غاية هذا التشبه منافسة الإلاه في الخلق الشيء الذي من ” شانه أن يؤدي إلى غيرته” كما يقول بعض الباحثين الغربيين بل كان وسيلة للالتحام به والقرب منه تحقيقاً للذات التي اعتبرت خليفة الله على الأرض إذ أن الله: ” يحب الصنائع القارة والحاذق وأن الوسيلة للقرب منه لا يكون إلا بعمل أو عبادة”[21].

  وأخيراً وليس آخراً  أيمكن أن ندعي بأن ملحمة الفن العربي الإسلامي قد انتهت وأنه كان نتيجة لرفض مبدأ ” محاكاة الطبيعة” وإن إشكاله عبارة عن عوالم مستقلة تستجيب لعقيدة الفنان الدينية التي شاع أن ممثلها على الأرض قد منع التصوير، المعتمد على الخصائص التي جعلها مشابهة لما في الطبيعة، كما يقول الكسندر بابا دوبولو، أو نقول إن الفنان العربي المسلم خطاطاً كان أو مزخرفاً أو رساماً، قد حاول عكس ما يروجون عنه التشبه بالإلاه بحسب طاقته ومحاكاة الطبيعة باعتبارها مخلوقة وخلاقة، فصنع مصنوعات فنية متفقة ومصنوعاتها من حيث كيفية البناء لأن النفس كما يقول التوحيدي تشتاق إلى الاتحاد بالمعقول لا بالمحسوس، بالبنية الخفية لا بالمظهر الخارجي، وهي بذلك تريد التعبير عن إرادة  الالتحام بالصانع من حيث هو خلاق مبدع وفاعل.  وهو سلوك يعبر عن سمو الذات ونزعتها إلى التحقق والقرب من صانع الكون الواحد الذي جعلها خليفتة في الأرض ” إذ الحذق في كل صنعة هو التشبه بالصانع الحكيم”.

    هذا هو السؤال الذي يجب طرحه ولعمري أن التراث العربي الموسوعي لغني بالأدلة والإشارات الفكرية والفلسفية ، التي تفسر الاختيارات الفنية والجمالية لفننا العربي الإسلامي والتي تفند ما شاع عنه من أنه كان نتيجة لتحريم التصوير التشبيهي ومحاكاة الطبيعة بصورة عامة.

 

المصادر المستعملة في البحث”

  • ابن منظور، لسان العرب المحيط تأليف ابن منظور، دار لسان العرب 4 أجزاء.
  • عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة ط. لبنان دار الكتاب العربي ، ص 587 .
  • إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا لصحيح خير الدين الزركلي، ط القاهرة المطبعة المصرية 4 أجزاء، 1982.
  • أبو حيان التوحيدي، الهوامل والشوامل، ط، القاهرة 1951، ص339.

رسالة الكتابة، الإمتاع المؤانسة.

الكسندر بابا دوبولو، جمالية الرسم الإسلامي ترجمة على اللواتي، نشر وتوزيع مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله ، تونس 1979.

عفيف بهنسي، جمالية الفن العربي، نشر الكويت، عالم المعرف، فيفري 1979، ص238.

  • عساكر خليل عساكر، رسالة الكتابة المنسوبة ، مجلة معهد المخطوطات العربي ، المجلد الأول الجزء1، ط1 القاهرة 1955.
  • ايتيان سوريو، الجمالية عبر العصور، ترجمة ميشال عاصي، ط1، منشورات عويدات بيروت، 1974، ص 316.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You cannot copy content of this page

X