البحر ومباهج اللون والضوء والحركة في أعمال التشكيلي خالد الفقي.
ظل البحر ومازال فضاءً تأملياً، يتشارك والفنان أبعاداً مجهولة لا متناهية، تتصل بجوهر العلاقة المتبادلة بين الإنسان والبحر، وهي علاقة تتصف بالدهشة والإعجاب والخوف والحذر والريبة أحياناً كثيرة، فالبحر مصدر الحياة والوفرة ومصدر الموت والبعث في الوقت ذاته، وهو رمز العالم المتغير وغير المستقر، الذي يجعلنا نوغل في متاهات الرمز ودلالاته.
يعتبر البحر مكاناً مفضلاً لدراسة اللون والضوء والحركة لدى الفنانين التشكيليين، نجد ذلك عند فناني المدرسة الانطباعية، الذين كانوا مغرمين بالمناظر البحرية، يرصدون فيها الضوء الملون والمضطرب وتحولات المشهد في سباق لالتقاط اللحظة المتلاشية بسرعة خاطفة، يظهر ذلك في أعمال الرسام كلود مونيه Monet، فقد كان من أشد المعجبين بمشاهد البحر وأضوائه، مما دفع سيزان لتشبيهه بالعين ” إن مونيه ليس إلا عيناً، ولكن يالها من عين”. أما عند فرسان الضوء، فنجد عند فناني المدرسة التنقيطية والقواطعية اهتماماً بدراسة الضوء المنعكس على صفحة مياه البحر، لالتقاط الشعاع على لوحاتهم، يدرسون من خلاله تحولات اللون والضوء وبعض من مظاهر البحر والسماء المتبدلة والغموض الكامن وراء المشهد المندمج وراء ضبابيات معطى الطبيعة ” بحر/سماء. لكننا نشير إلى أن جل مواضيع البحر التي رسمها الفنانين ،لامست سطح البحر واعتبرته مرآة تعكس أضواءً إلهية، يختبر الفنان من خلالها تجربته في فهم فيزياء الضوء وتمثلاته اللونية، بشكل عام كانت اللوحات تحتوي على رسومات لمنتجات البحر الناتجة عن الصيد أو رسم سطح البحر في كل حالاته الهادئة والعاصفة ولم تبحث في أعماقه المجهولة وعلاقة كائناته ببعضها البعص من حيوان أو نبات وصخور .
تعددت أساليب التعبير عن البحر بتعدد معانيه، فالبحر منذ القديم يطرح تلك العلاقة الجدلية بين الإنسان والعنصر البحري كموضوع ومفهوم وحاجة، ظهر ذلك في أطروحات الحضارات القديمة عن الماء عن الآشوريين والبابليين، الذي أخذ بعداً دينياً وروحانياً في كثير من المواقف، خاصة عند ممارسة الطقوس الدينية / الأساطيرية، المتمثلة بالتضحيات أو العقوبات المسلطة على البعض لاختبار براءتهم، كذلك نرى اعتبارات أخرى للبحر تتمثل في البعد الاقتصادي الذي نتجت عنه حروباً أو يكون مسرحاً للغزو وقدوم الغرباء.
مازال البحر يتيح مجالات الاكتشاف الواسعة، فهو صلة الوصل بين عوالم وشعوب مختلفة، ما أكسبه أبعاداً جديدة في عالمنا المعاصر، الذي ماانفك يترك نفاياته ويغسل أدرانه في عمق البحر، مسقطاً إياها على محيط آخر لكائنات حية أخرى.
يتابع الفنانون المعاصرون اكتشاف الفضاء البحري، الذي يبدو جلياً في الفن المعاصر من خلال الاستعارة والرمز إسقاطات العالم الواقعي على مفاهيم متبدلة مثل البحر.
إذاً هل تتبدل سيمياء الممارسة التشكيلية لموضوع البحر في الفن المعاصر، وماهي أوجه ذلك التبدل باعتبار محلية المنجز التشكيلي والرؤية الخاصة للفنان والاتجاه الجمالي الذي يسعى إلى بلورته من خلال معاني ومدلولات ورمزية البحر الواسع والممتد؟..
تجيبنا على تلك التساؤلات أعمال الفنان التشكيلي خالد الفقيه عن البحر وأعماقه، التي مثلت معرضه “إبحار” الذي تم في “4 مارس إلى 30 ماي 2022” في دار الثقافة بساقية الزيت.
إستعارة أو إسقاط أو تحول.
أخذت لوحات الفنان ” خالد الفقيه” مرجعيتها من بعض الأمثلة الشعبية المتداولة إلى حد الآن مثل ” حوت ياكل حوت” وهو عنوان لأحدى لوحاته ، التي تمثل صراعاً خفياً وأزلياً بين كائنات بحرية نراه للوهلة الأولى على سطح اللوحة، لكنه يعكس الوجه الآخر والوعي الآخر لصراع أزلي، ذا خلفية تيولوجية وسوسيولوجية فالبقاء للأقوى حسب قانون الانتخاب الطبيعي.
لا ينفلت اللون من تلك المحاكمات الرمزية على سطح ثنائي الأبعاد، فقد تجاورت الألوان في صخب، يعبر عن صخب ما يوجد تحت صفحة الماء الزرقاء الصافية، صخب الحياة وصخب الموت، بالتالي صخب الأضداد، التي جاءت ألواناً متكاملة نميز فيها الأزرق والبرتقالي في تباينات شديدة الوقع على العين، مؤلفة حركة بصرية قوية استعارها الفنان من حركية المشهد المصور، مخاطباً حدس المتلقي بوجود حدث ما خطير.
كما أن التزام الفنان باللون الأزرق والأصفر المائل إلى البرتقالي أو أحد درجاته اللونية، يمثل مقاربة مباشرة مع لون البحر وشواطئه الرملية، ولا يأخذ الفنان تقلبات أحوال المياه بالاعتبار، إلا كخلفية لكتلة الألوان التي تمثل ملحمة بحرية لحرب ضروس تدور رحاها في العمق البحري، وهو عمق له رجعه في اللاوعي وإن ظهر بشكل تداخلات لونية كثيفة متراصة، تدل على ثراء لوحة المزج الخاصة بالفنان وسلاسة استخدام اللون، رغم اختياره اللمسة الصافية في مساحات صغيرة تتجاور إلى حد الاندماج أحياناً، لكي يصل بالمفهوم إلى حد النطق والتصريح، بفحوى اللوحة في خطاب بصري قصدي، ينبه إلى حجم الخطر الناتج عن تبدل الرؤى، الذي سار سريعاً إلى حد التمايز وتبديل العادات والتقاليد والمعطى التراثي المحلي في كثير من المناطق التونسية، مشيراً إلى صراع خفي وعلني في الوقت ذاته ، يتم على وقع نبض الحياة كما ألفناها زمناً ليس باليسير.
تبدو عيون الحيوانات المائية التي صورها الفنان شاخصة وفي حالة مواجهة واتهام. كما أن انتقال السمك من البحر إلى اليابسة يحيلها إلى مساحة لها لون واحد فقط، مايدل على فقدانها الحياة، فالبحر حياة للبعض واليابسة موت للبعض الآخر وهو اختيار لدى الفنان، حيث لا تظهر الألوان على الكائنات البحرية إلا في حالة الحياة.
يصور الفنان خالد الفقيه نثريات البحر بكل معانيها فتسميات اللوحات عنده أشبه بأرشيف حي للكائنات البحرية، فنجد السمك والصوبيا، أخطبوط وحصان البحر، وهي منتجات بحرية يتناولها الإنسان كغذاء، لكننا نرى أيضاً تسميات “داعش1، داعش2، داعش3” التي تدل على تلون الأزمات المعاصرة التي اجتاحت العالم العربي، ما تطلب مراجعة شديدة لقناعاته أحدثت زلزالاً طائشاً في صميم وجوهر الوعي الجماهيري، الذي بدأ يعيد تشكيل الهوية والمعتقد والماضي والمستقبل. وهي استعارة لوسم العنف في عالم البحار.
يتيح الفن إمكانات تجاوز الواقع والمعقول وكسر التابوهات وإعادة تأملها وتمثيلها أو تفكيكها، باختيار مصيب قام به الفنان “خالد الفقيه” في تناوله لمفهوم كالبحر في عمقه وغموضه وخطورته وتمثيل الصراع الدائر تحت أمواجه العابثة، فامتداد البحر وضخامته، تفوق قدرات البشر الطبيعية.
أخيراً:
مازالت عطاءات البحر سخية، ومدعاة للتأمل والإبداع، كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة، ينبت فنان بين مفاصل موجتين وبحر.
1 Comment