الخطاب الأدبي النسائي ومظاهر اختراق المسكوت عنه في التجربة الشعرية
بقلم الشاعرة:ليلى ناسيمي
الكتابةُ الإبداعية استجابةٌ لحاجتنا الملحة في ممارسة طقسِ الحرية، والحرية في مجتمعاتنا العربية، مشروطة بعَدَمِ الخَوْضِ في ما يُثيرُ حَفيظةَ الغُلاة في الدّين، حراسُ المعبدِ… وعليه فإن كنتِ مبدعةً حقا عليكِ بِخَلْقِ لُغَة لا تُذَكِّرُ ولا تُشْبِهُ أو تتقاطَعُ مع الكلام المقدّسِ لطَرْحِ فِكْرَةٍ لا صِلَةَ لها بما حَرَّمَ أو نَهى عَنْهُ كِتابٌ مقدّس والحالُ أنّ الكُتُبَ المقدّسة أحاطَتْ بكلِّ المعارِفِ والأفكارِ… إذا عليكِ – أنت المرأة المبدعة – أن تَخْلُقِي لكِ لغةَ وأمْكنةً وأزمنةً وأفكارا بطَرْح بعيدٍ عن كوكبِ الأرضِ وعن درب التبّانة حتى… وإن كُنتِ مُصِرَّة فيجِبُ أن تتمتّعي بدهاءِ الكُهّان ومُرُونةِ راقصٍ على الحَبلِ كي تُحافظي على توازنِ وراحةِ هذه الكائنات الهشّة التي تحيط بنا.
وهي أيضا -الحرية- مشروطةٌ بعدمِ الخَوضِ في ما يخْدِشُ بِلَّورَ ذَوِي الرّهافَةِ في المشاعرِ والغرائزِ المطْمورةِ تحتَ الأقنعة فحاذِري وأنتِ تُميطينَ ستائِرَ عن الجسدِ أن تثيري رغبةً مستهامةً لدى قارئٍ لا يَحُدُّ جُموحَ خَيالِه حَدٌ.
قبل كل ذلك ما يجب التأكيد عليه أننا اعتدنا مفهوم جاهز “للحرية”، تلك “الحرية” الموهومة التي لا تتصدى للبُغاة ذوي السلط المفوضين على الرقاب المستحلين لحليب حاحا المستباحة والضحية عادة هي المرأة ﻷنها الحلقة الأضعف في مجتمعاتنا ولذلك يتم تعليب الكلام ولَفِّهِ في سولوفان الاستعارة والانزياح والترميز، بهذا كانت “الحرية” في أوطاننا داخل علبة جاهزة للاستعمال حتى لا ينزعج السياسي ورجل الدين وحتى لا نخدش مشاعر العامة.
التطور الذي عرفته مجتمعاتنا خاصة بدخول المرأة للتمدرس، و ادراكها المكانة الاجتماعية الدونية التي تعيشها و التي جعلتها مشدودة بسلاسل إلى الجهل الديني والتخلف اﻻجتماعي والوصاية السياسية لا تعكس حقيقة المرأة كإنسان لها حقوق وحريات. رغم ذلك نجد المرأة المثقفة والمبدعة تتقدم بشجاعة وتفكر ضد الثالوث المحرم (الدين، الجسد، السياسة) الجاثم على العقول والقلوب واختارت في ذلك وسائط ابداعية متعددة مستعملة الرمز والانزياح والاستعارة، بالإضمار والتضمين والرصد، بالحجاج والتدليل فكرا وسردا، شعرا و رواية و مسرحا.
عندما تجرأت المرأة المبدعة وفكرت حول المقدس وفي مواجهته بمعنى عندما تناولت مواضيع المحرّم أو ما يسميه ميشيل فوكو بالمسكوت عنه نجد أن أساليبها اﻻبداعية تختلف من جنس أدبي لآخر لكنها تخضع حتما لمقومات كل نموذج إبداعي و تلتزم بتقنياته الجمالية لغة وبناء بمعنى أن تناول المرأة لقضايا لها علاقة بالمسكوت عنه لم تتم بشكل ارتجالي و عفوي، لم تقدم أطروحات ابداعية مباشرتية في هذه المواضيع الحرجة ولكن اشتغلت في كل مرة حسب ما تقتضيه المضامين التي تقترحها المادة اﻻبداعية التي تمثل دعامة لمواقفها في الحياة و لرؤيتها للعالم.
تلجأ المبدعة الشاعرة (مثلا) في طرحها لأي من أضلاع المثلث المُحرّم غالبا إلى الصورة الرمزية والجملة الانزياحية و الاستعارية وإلى تفكيك المسكوت عنه لغويا، وإعادة انتاجه بما يحقق الجدوى و المتعة في نفس الوقت وهذا يعني ضرورة نجاح الفكرة في الوصول للمتلقي بكل حرارتها و صدقها وجماليتها و عنفها وبذلك تجعل المرأة من القارئ شريكا لها في عملية التفكير و الرفض عندما يبحث بنفسه في دلالات القصيدة وبالتالي تورط القارئ على الدخول في فكرتها و سيجد نفسها يساندتها في تمردها.
أَسُوقُ هنا نماذجَ مقترحة من تجارب إبداعية مهمة ولافتة في الوطن العربي:
في الشعر أقدم أمثلة من قصائد لسُنية مَدُّوري وفاطمة بن فضيلة من تونس وعائشة المغربي من ليبيا و في السرد أتناول النص الروائي اللافت “الملائكة لا تطير” لفاطمة بن محمود وفي المسرح أستعرض تجربتين من تونس لنجوى ميلاد و من المغرب مسرحية لفرقة أكواريوم.
في التجربة الشعرية:
اختارت سُنية مَدُّوري أن تتمرد بكل جرأة و وضوح ومن خلال صورة متناهية في الشفافية و الدقة، فتلقي عنها العقائد والأغلال جانبا و تبشّر بوطن من لغة تخصها بعيدا عن فضول العسس، وهي لا تتوسّل في تمردها التمويه أو التجريد بل تنطلق مباشرة بالفكرة إلى مداها و تعيد للتفاح عنفوان الاشتهاء وتؤسس الوطن المشتهى والبيت لجوقة من الآلهة ولا دخل لغيرها فيه.
الشاعرة التونسية فاطمة بن فضيلة تعلن مواقفها من العنف والهجرة و التطرّف الديني و ترفع صوتها في وجه السياسيين المتاجرين بأوطانهم بكثير من التّضمين فهي تلتقط الصّورة الحيّة التي تفضح الآخر/ الاقصائي وتلقي بها في وجهه حيث لا يتوقعها.
أما الشاعرة الليبية عائشة المغربي، اللاجئة في فرنسا حيث شُرّعت لها أبواب الحرية والأمان بعد أن تعرضت للتهديد في بلدها ليبيا.
وهي هنا تفكك مسكوكة لغوية شبه مقدسة وتعيد إنتاجها وهي “أرض الله الواسعة” و تحولها إلى “أرض الله الضيّقة” فتنكّل في قصائدها بتجار النوايا الخبيثة.
هذا اﻻختيار من عائشة المغربي يعكس توظيف لغوي يَرِدُ كثيرا في النصوص الشعرية للعديد من الشعراء المتمردين، إذ يستعمل معجم اللغة “المقدسة” ويُستعار الأمثلة والمقولات من هيكل الجملة و يتم إعادة بنائها.
من المغرب الذي جئت منه محمّلة بارث ثقافي هو نفسه الذي تعانيه النساء في وطننا العربي يمكن أن نلاحظ ان المثلث المحرم تتداخل أضلاعه وتنغرس في لحم المرأة الطري.