الأبعاد المتحولة للجسد المفاهيمي عن الفنان المغربي معول بو شايب
تتميز الفنون الحداثية والفنون ما بعد الحداثية بالغرائبية، والسعي الحثيث نحو اللامتوقع وغير المألوف والمستفز، كما تتميز في تجاوزها الدائم، وخروجها عن التصنيفات الأكاديمية الكلاسيكية والحديثة، وذلك بالتخلي عن إعطاء أهمية كبيرة لدراسة النسب والقياسات اللازمة لبناء وتأليف العمل الفني، الناتج عن اعتمالات شخصية وذاتية وفكرية للفنان. فقد ظهرت اتجاهات فنية عديدة مثل الفن الفقير والحدوثية وفن التنصيبة وفنون الأداء وفن الأرض والفن الرقمي، التي تعتمد المفهوم أساساً لها مما أعطاها إمكانيات غير محدودة للتعبير الفني، فنرى “الضخامة والتعارض والإفراط والتعابير العنيفة المضطربة على نحو صادم، وعدم الاهتمام بالنسب وعدم الانصياع للمقاييس في صناعة اللوحة أو التمثال لتظهر قضايا جمالية مختلفة على غرار عملاق غويا goya”[1] ، وكذك نرى أن فن اللوحة المسندية قد جدد تناوله لأبجديات العمل الفني، لنرى لوحات مرسومة دون إطار أو بنصف إطار أو إضافة مواد أو تغيير أنواع المحامل( أعمال كلود فياللا) فهو يرسم على الأقمشة والكرتون والورق وما يصادفه من العناصر.
صرحت سوزان لانجر( أن الفن شكلاً دالاً يتجاوز عناصره المكونة له)[2] في إشارة إلى الأبعاد الدلالية، كما تقول رسالة الفن المعاصر بكل وضوح (كل شيء أصبح ممكناً) إشارة إلى التكوينات المادية واللامادية للعمل الفني، إندي ورهول يقول(كل شيء يمكن أن يكون فناً)، وفي تلك المقولتين تصريحاً وتبريراً للممارسات الفنية ما بعد حداثية، فهي تنهض على تحدي المفاهيم السائدة وتفجرها في آن واحد ، تبدأ بترسيخها ثم بتخريبها.
يستنتج ليوتارد( أن وظيفة الفنانين المعاصرين هي طرح تساؤلات حول رواية الحداثة الكبرى، التي استخدمت لشرعنة أشكال معينة من الأعمال الفنية،)[3]، إذاً القاعدة ليست مهمة، إن ما يهم هو الشاغل الجمالي والاهتمام بأشكال الهوية والسلوك التي همشت حتى الآن. حيث يأخذ الفن شكلاً أسطورياً يكشف عن ذاته متجلياً في النقد الفني الذي سيقدم بنية مفاهيمية غير مكتفية، نسبية، لتصبح هذه المفاهيم سنناً، يقتفي أثرها ممارسوا الفن التشكيلي ومتذوقيه.
سنناقش من هذا المنطلق تجربة الفنان الفرنسي المغربي الأصل،( معول بو شايب). المعروف باسم (معول) وهو مختص في فن الحفر والرسم والنحت، ولد في 26 فيفري 1959 في الصويرة بالمغرب العربي، حصل على ديبلوم في الفن التشكيلي في المدرسة العليا في مرسيليا، حيث انتقل إلى هذه المدينة للعمل، شارك في العديد من المهرجانات الدولية. تستند أعمال معول حسب جان لويس ماركوس[4]، إلى مفارقة تاريخية تتساءل عن معاناة الجنس البشري وجنونه، وهو يجمع بين النقش والرسم والنحت. إذاً:
كيف تبدو حداثة معول الفنية وتداعياتها على الجسد الذي يتظاهر كوناً ؟
ماهي التداعيات الزمكانية على المنجز التشكيلي ؟
كيف تم تجاوز أبعاد الجسد الفيزيولوجية لتجتمع في داخله رسومات الكهوف والأجهزة الإلكترونية الحديثة وبعض الأسلحة وزخرف بربري وأصداء ولهو وصخب ؟.
- تمثلات الجسد الإنساني في أعمال معول التشكيلية.
يقول فياللا”[5] كل لوحاتي أشبه بجزء من شيء متواصل، كأنه لا يوجد سوى لوحة وحيدة ضخمة ومثالية، أقوم باقتطاع جانب منها لأضعه في لوحتى”. نرى ذلك الضرب من التشكيل الفني في شخصيات الفنان التشكيلي معول بو شايب المنفلتة والمتداعية شكلاً ومساحة ، في استمراريتها الزمنية المسترسلة وفي تواصليتها وفي مدلولاتها التي تشكل لحظة الوعي الإبستيمولوجي لماهية الجسد، كونه منطقة عبور واحتواء، وتمزق بين طائرة أو رمز بربري، بين الكمبيوتر أو حيوان بري، فالفنان لايبحث عن التوافقات والنسب الصريحة بقدر ما يترك ثنائياته المتناقضة، تبحث عن تناسق داخل حدود الخط الراسم للجسد ،الذي اعتبره مساحة فقام بتضخيمها وتبديل أبعادها، وجعلها أداة تصميمية للفضاء التشكيلي.
يرسم “معول” سلسلة لوحات، بل سلسلة أجساد متمايزة نوعياً، فنلمح الجسد الأنثوي وتحولاته الفيزيولوجية، عندما يتضخم في بعض الأجزاء أو يتطاول في أجزاء أخرى، ونلمح جسداً في المطلق متمرداً متجاوزاً، يحمل قلقه الأنطولوجي هائماً في اللامكان واللازمان، أنها أحجية”معول” التي تمثلت مفهوماً لماهية الإنسان وجوهر وجوده، بينما يصيغ شكلانيته المتعددة والمتحولة، شكلانيته المتضخمة، ليقول لنا أنها قصصاً صغيرة محتواة داخل قصص كبيرة، قصصاً كبيرة بشخصيات كبيرة، تنخرط في اللحظة والآن، شخصيات هاربة من حدود الذات وحدود الرسم واللوحة، تماماً كما يقول “فياللا” هي جزء من شيء متواصل.
يرسم “معول” جسداً غير معرفاً، تجبره تقنية الحفر على الظهور محدوداً ومحدداً شكلياً، فيبدو كبيراً ، صغيراً، جسداً لاجنس له، جسداً خرافياً، أسطورياً، عارياً إلا من محتوياته الكونية في مرحلة البداوة والبدائية، أو مرحلة علوم الفضاء والإلكترونيات، جسداً مفاهيمياً بأبعاده المتحولة. يتعمد “معول” ترك الجسد المرسوم يختار أبعاده، تاركاً أي قياس أو دراسة للنسب وهو التعبير الأسمى لتجسيد المتجسد (أعباء الإنسانية) إذ يقوم بإدماج أكثر من تقنية في العمل الواحد، ليؤكد لنا أنه عندما يبدأ المفهوم تنتهي النسب. أي قد نضحي بالتقنية في سبيل الفكرة.
يجمع “معول” في أعماله بين عدة مفاهيم، يجسدها تشكيلياً، وهي الكثرة والوحدة، الايجابي والسلبي، التعددية والتماثل. كما نلمس ازدواجية وكثرة في العلامات المرسومة وتناولاً لرموز الأقاصي المغرقة في القدم. لأنه يلغي تراتبية الزمن المعهودة ويدخلنا في زمنه الخاص، أو ما يسميه الدكتور جمال عبد الملك ” الزمن الداخلي لأنه لا مرجع له سوى صاحبه، وصاحبه يختلف في تقديره لأنه يشعر به شعوراً غير متجانس، ولا توجد فيه لحظة تساوي الأخرى، هو زمن متصل في ديمومة شعورية وكأنه حضور أبدي”[6]. ويقول أيضاً عن الزمن الداخلي” نحن نعيش في حضور مستمر، نعيش شاخصين باستمرار إلى سيل من الحوادث ينهال أمام حواسنا لا نعرف في هذا الزمن الداخلي سوى ( الآن) ننتقل من (آن ) إلى (آن)”[7]. هذا الزمن الاتي النفسي، تحدث عنه الفلاسفة وهم يطلقون عليه الزمن الوجودي. إن تمثلات الجسد المتنوعة والمتداخلة عند معول، تعكس بشكل جيد البعد المفاهيمي والزمني لأعماله، فنراه يجمع بين الفن التشكيلي المغربي في أوربا والفن التشكيلي الغربي في في المغرب، وهو ينقل هواجسه الفنية من فن معاصر عالمي إلى فن مغربي عالمي، من الزمن الذاتي والخاص إلى زمن كوني، والسؤال يطرح ذاته ، “هل بوسعنا أن نجمع بين الاستقلالية الجمالية والحس المشترك”[8]، كيف ومتى وأين، هي تطلعات ربما أجاب عليها الفنان تشكيلياً من خلال تمرسه على تقنيات الرسم والنقش والحفر.
نميز في منجزات “معول التشكيلية، تمثل للجسد في عصر ما قبل التاريخ، الجسد بملامح مصرية فرعونية، الجسد الخارق، الجسد الضخم، الجسد الروحاني، الجسد الأيقوني، الجسد الرمزي، الجسد المحدد رسماً، الجسد الهجين، الجسد السريالي، الجسد المجزأ، الجسد كأثر، الجسد المسخ، الجسد المستنسخ. يجمع العمل الفني أكثر من صفة للجسد، فهو الجسد ذاته وقد حمل عبء البشرية عبر أزمنتها جمعاء.
– مورفولوجية الجسد التشكيلي[9].
- تاريخانية الجسد[10].
نتعرف في أعمال معول التشكيلية على تآليف شكلية للجسد، مستلهمة من رسومات الكهوف والمغاور، والآلهة الأم، فينوس ويللاندروف، كما نلحظ وجود الكتابات التي تشبه الهيروغليفية في تسلسلها وطريقة واتجاه كتابتها، تحاكي رسومات قبور الفراعنة ، ورسم عناصر تعود لأزمنة سابقة ولاحقة داخل الجسد كمعطى تشكيلي تاريخي. تقول الباحثة ويز غالاز:”هكذا يعيش الإنسان في هندسة متغيرة، ينتقل فيها الجسد كذات نحو الكينونة وفي ضورورة ايبستيمولوجية معرفية تلتقي ميزة الامتداد بعملية الانفتاح والتجريد فيكون الجسد فيها بدون حدود وبدون قطيعة”[11]، فهو يتجاوز حدود الجسد ومقاييسه الطبيعية إلى أجساد صنعت كينونتها وماهيتها الوجودية ، بإعادة رسم مجالاتها المادية وفق هيئات تترجم رغبات التداعي والتجاوز والتمرد، فلا تلتزم بمساحة التشكيل أو يصبح الجسد ذاته مساحة للتعبير التشكيلي، وعندما يسأل الفنان عن فساحة الزمن المطروح للشخصيات الممثلة، يقول:
“أحاول أن أكتب قصتي الخاصة في التاريخ ، وأضع طابعي في نسيج الثقافات التي تغذيه ، لفهم أصولي البعيدة، لتتبع علامات خطوطي هنا والآن. لكنني أعمل بشكل رئيسي على رسم رؤيتي لأَصلِ البشرية ومصيرها مع التنديد بالعنف المدمر الذي تزرعه مع الجهل والازدراء، لما تنطوي عليه البشرية من ثروات حقيقية محتملة. ثروات قادرة على تزويدها بأفضل ما في العالم ، إذا كانت تعرف فقط كيف تنظر إلى قيمتها الحقيقية”.
– الجسدالشاعري”[12].
تُظهر تمثلات الجسد خلال عصور ما قبل التاريخ النساء بأشكال دهنية في منطقة الوركين والثديين، بشكل مبالغ به وذلك للتعبير عن الخصوبة والحاجة إلى استمرارية النوع، ولكن أجساد معول قد طرأ عليها تحول في البنية العامة، لنرى الشكل الهيولي، الذي تتماهى أطرافه انسيابياً في كل الاتجاهات،
مثل “الأميبا”[13] في تحولاتها الغير منتهية، ومثلما تتضخم مناطق معينة من الجسد تتقلص مناطق أخرى وقد تنمحي كلياً، مُشكلةً ديناميكية حركية. يقول جان لوك نانسي وهو مفكر فرنسي حداثي” الجسد غير قابل للتدقيق ولاقابل للتعريف أو التحديد، إنه فريد المعنى، يختبر قدراته في لعبة التفوق والامتداد”[14] فيما يحدد هايدغر “أي أن الغلاف الجسدي يزيد انبساطاً ليملأ الفضاء بتجاوز حدوده المرئية على شكل حركية مستمرة، يمتد حينها الجسد إلى حد معين، هذه الفاعلية بالذات تمثل علامة الحيوية التي تسكن الجسد أو تحتله” [15]. أما الباحثة ماري جائيل كتبت عن تحولات الجسد مايلي”أن امتداد الأعضاء خاصة اليد لا يتوقف عند الغلاف المادي للجسد، وأطلقت عليها عبارة ديناميكية الامتداد، فالجسد ليس مجموعة أعضاء فقط بل هو كل متحرك في علاقات دائمة”[16].
- الجسد الأيقوني.
يرسم “معول” جسداً متعدد المظاهر، يحدده بخط عازل يشكل إطاراً لجسد معزول، ضمن مساحة محددة، وهي سمات نجدها في أسلوب رسم الأيقونات البيزنطية القديمة، التي تهمل النسب والقياسات المتعارف عليها في الفن الإغريقي، ليصبح الجسد المرسوم مساحة مسطحة ثنائية الأبعاد، يحدها خط مغلق على نحو الرسومات اليابانية(Estamps japonaises )[17]. لكننا نرى حضوراً كثيفاً لعناصر، جمعها الفنان من عصور مختلفة ، قديمة وحديثة، ووضعها داخل مساحة الجسد، ليمنح الجسد إضافات تنسجم مع الفكرة المنشئة للرسم وأبعادها، ليقول لنا إن الجسد لم يتغير ولكن متعلقاته هي التي كثرت واستفحلت وجعلته جامعاً لمقتنيات ، وهوحسب هايدغر يتسع لأنه كائن منفتح ممتلك للعالم، وهو فضاء يخلق فضاءات، تعود لحضارات عدة . لنرى فأساً حجرية جانب سلاح متطور جداً أو كمبيوتر.
لايقصد الفنان “معول بوشايب” تعيين جسداً ما، لأنه يقصد دلالة الفعل والحركة، لايهتم للأشخاص إنما للنوع الإنساني ، للكائن البشري، للإنسان الكوني، المشبع بالأوشام والألوان، المشبع بأساطيره وسحره، جسد بربري أو أفريقي ، يخص بذلك حوض المتوسط، بثراء رمزيته وطغيانها على المخيال الشعبي التراثي، بروحانية عارمة، تسجل ملامح لهوية المعاصرة، فالإحالة على الرمز والتعددية تميز أسلوب ما بعد الحداثة.
حدد هيغل معنى الرمز” إن الرمز شيء خارجي مباشر يخاطب حدسنا بشكل مباشر، ولكن هذا الشيء لا يقبل كما هو لذاته، وإنما بمعنى أوسع وأعم كثيراً وهو هنا يميز بين مدلول الرمز وتعبيره، فالمدلول مرتبط بتمثل موضوع ما مهما كان مضمونه، أما الجانب التعبيري فيعبر عن جانب حسي أو صورة ما، والرمز يستخدم كوسيلة للتعبير، فيوحي بالمعنى المراد منه ولكنه لايفصح عنه، إذا هو يقوم بدور التجسيد المادي بينما مغزاه هو المضمون”[18].
– العناصر الموزعة داخل الأجساد: آلات، أسلحة، جرارات، رموز دينية، أوشام، صواريخ، كمبيوتر،سيوف، رجال مريخيون، رجال فضاء، مناجل ، فؤوس، بعض الرموز الدينية لحضارات ما قبل الميلاد مثل الحضارة الفرعونية والرافدية والبربرية، نجوم، قلائد…………..الخ، إن جسداً بذلك الاحتواء يعتبر جسداً منهكاً لعبور حضارات عدة من خلاله، فهو جسد مخترق، قد تكون هذه العناصر أبعاده الحقيقية اللامرئية، بما يعتريها من تشوهات وفقد للقياس يقول الباحث محمد أبو زريق “إذن التجاوز لا يكون للمستقبل فقط بل يكون للماضي فالحداثة تتجاوز حاجز الزمن وصولاً إلى الأصل ولذلك لا ضرورة للزمنية في الحداثة”[19}. يمتلك الفنان “معول” معجمه الرمزي الخاص به والذي يستعين عليه بمعين حضارات البشرية جمعاء لتأليفه، بعناء تأليف المشهد التشكيلي، وعناء الممارسة التشكيلية ذاتها.
- الجسد الهجين.
نستطيع اعتباره جسداً سريالياً، مغرقاً في الغرابة، خرافياً ،أسطورياً، يمثل شكل الغول أو إنسان برأس حيوان، بجسد كامل أو نصف جسد، ينتشر على مساحة المحمل التشكيلي بحرية، لا يوجد أعلى أو أسفل وإنما توزيع حر لحركة حرة، تمثل تصورات الفنان الذاتية
- الجسد المجزأ.
تجبر تقنية الحفر أحياناً والمواد المعالجة للخامة المستخدمة ( معدن أو خليط معدني ، ورق، خشب…) إلى تجاوز الفكرة التشكيلية، والانصياع لمتطلبات وضرورة العمل الفنية، ، فالحفر على محمل صلب كالمعدن، يتطلب إحداث أخاديد رفيعة أو غليظة، ونتوءات، لأداء تعبيرات داخل المنجز التشكيلي، قصد بلوغ حدود التعبير القصوى للفكرة التشكيلية، فتظهر العناصر المكونة لشكل واحد بعيدة عن بعضها، متشظية أحياناً، وعبارة عن شذرات أحياناً أخرى، فيبدو الجسد مفككاً أو ناقصاً بعض الأجزاء حسب تصوراتنا الكلاسيكية، ولايسع الجسد الكوني الذي طالعنا به “معول” إلا أن يخضع لفلسفة القرن الما بعد حداثية بكل تجلياتها.
- الجسد موضوع وممثل للعمل الفني.
يقدم الفنان التشكيلي “معول بو شايب” موضوع الجسد وإشكالية تصوراته في محاولة للجمع بين ثنائيتي الموضوع والشكل، متجاوزاً مثالية هيغل التي بحثت في إمكانية المطابقة تلك، والتي تنتصر للموضوع مضحية بالشكل، ولكن صور معول تستنطق الشكل/الجسد، كونه يمتلك وعياً ذاتياً كما قال فرويد” الجسد يوازي اللاوعي”[20]، وكذلك رأى دافيد لوبرتون أن الجسد يحدد هوية الإنسان ” فبدون الجسد الذي يعطيه وجهاً، لن يكون الإنسان على ما هو عليه، وستكون حياته اختزالاً مستمراً للعالم في جسده، عبر الرمز الذي يجسده”[21]. إنه يحاول تزيين الجسد كمسطح تصويري محتفي بالشكل، وآليات وعناصر بنائه المستخدمة، بأسلوب يزاوج بين البنية التسطيحية والتجسيمية من خلال “تقنية الحفر” التي تخلق مستويات متباينة لسطح الحامل التصويري، بشكل مغاير عن الأعمال المطبوعة” تقنية الحفر المطبوع”، محاولاً التقريب بين تقنيتين تشكيليتين وبين جمالية الموضوع المنجز.
- الجسد المستنسخ.
تتجول شخوص الفنان “معول” عبر منجزاته التشكيلية في تكرار تتغير فيه حدود الجسد، فيبدو وحيداً أحياناً ومتعدداً، يتوالد أجساداً صغيرة، منتشرة داخل المساحة التصويرية في وضعيات توحي باللعب والجري والقفز واللهو، هائمة، متكررة، تساعد في ذلك تقنية الحفر المطبوع الذي استخدمها لاستنساخ العديد من الصور، بواسطة تقنية الطباعة الحجرية، إنه استنساخ تقني وصوري للنوع الواحد.
أقدم الفنان “معول” على استدعاء تقنيات كانت قد اختفت من عالمنا العربي والمعاصر إلا بتجارب محتشمة وهي ( تقنية الحفر المطبوع) الذي يعتمد على الطباعة عن ( الراسم) لاستنساخ مطبوعات مماثلة للعمل الفني، يقدم النسخة الأصلية على المعدن ثم يقوم بطباعتها على الورق. ماهي تقنية الحفر؟ وماهي أنواعها؟ وكيف استخدمها الفنان لتنفيذ موضوعاته المتخيلة؟ .
تقنية الحفر أو (Gravure).
ضمن ثقافة ( الرسكلة وإعادة التدوير)، ذهب الفنان “معول بو شايب” ليبحث عن مواد جديدة، ومتنوعة في تنفيذ أعماله التشكيلية ، مثل الكرتون والورق والصفائح المعدنية التي يأخذها من الأدوات المنزلية المستهلكة( باب فريجيدير، غسالة ألبسة أو أواني، صفائح نحاسية…………..)، ثم لجأ إلى حفرها مثل اختيار مناسب على مادة النحاس، الذي يتوفر في الصناعات التقليدية المغربية المحلية، والذي يستخدم كثيراً في تقنية الحفر، وأن غالب أعمال الحفر نفذت على النحاس حصراً.
يقول الدكتور “حبيب بيدة”[22] أن التقنية ليست برئية في تظاهر العمل التشكيلي مرئياً بأسلوب ما، فما تأثير تقنية الحفر على تمثلات الجسد عند الفنان “معول بو شايب”؟.. وماهي تقنية الحفر ؟.. يعرف إيتيان سوريو تقنية الحفر بأنها “آثار خط محفور على سطح قاس ونقله على سطح لين أو رطب كالورق أو الحرير، وهي من أصل كلمة Estempe) )”[23]. ونجد أيضاً تعريفاً آخر لتقنية الحفر في الموسوعة العربية كالآتي “بتقصي أقدم الرسوم التي تركها الإنسان القديم في المغاور، تبين أن
تلك الرسوم تحمل آثاراً خطية فوق أسطح الجدران والصخور، وهي تعد أول أعمال غرافيك وأقدمها”[24].
تحصر معاجم أخرى مفهوم (السطامب) بنوع اللوحات المطبوعة بواسطة سطح معدني محفور ، وتذهب بعض الموسوعات إلى اعتبار أن كلمة حفر، تعني تخطيط، رسم، أو نص على سطح معدني أو حجري أو خشبي، بقصد مضاعفة الصورة أو النص، عن طريق الضغط على ورقة أو أي مادة أخرى، وكل الدراسات تشير إلى أن فن الحفر يتم عبر مراحل عديدة ، تتمثل في الرسم أو الكتابة ثم الحفر والتحبير وضغط ما تم إنجازه فوق سطح لين، نستطيع بعدها الحصول على عديد من النسخ، لنشرها على أكبر عدد ممكن من المتلقين.
تطور فن الحفر وظهرت تقنيات أخرى مثل تقنية(Nillo)، الليتوغراف، أي الطباعة بواسطة حجر الطباعة، وهناك الحفر بواسطة الماء القوي والشمع الطري وطريقة السكر و الراتنج و الحموض المعدنية.استخدم الفنان معول بو شايب هذا التنوع تقني، والمعرفي ، بالإضافة للجانب الميكانيكي، حيث تعتبر تقنية الحفر من أكثر الأعمال التشكيلية تعقيداً، باحتوائه على قيم فكرية وفنية رفيعة تؤهله لإنتاج روائع فنية. يلون “معول” الجسد، بلونين متكاملين داكنين في قيمتهما اللونية، هما الأزرق والبرتقالي، وأحياناً يكتفي بلون المعدن الأبيض لباب الثلاجة، ويقوم بالحفر عليه ثم يلون المساحة المحفورة، وأحياناً كثير يعتمد اللون الواحد لشخصياته المرسومة.
عند سؤال الفنان”معول” عن أعماله المحفورة والمطبوعة بما يلي:
أنت رسام ونحات وحفر ، كيف تفسر هذا العطاء الثلاثي؟ فأجاب:
الأمر بسيط للغاية ، فأنا نحات عندما أقوم بمهاجمة السطوح المعدنية البيضاء، لاستخراج طاقتي ونشاطي في النقش. يتم أخذ ألواح الثلاجة أولاً من الملحقات عديمة الفائدة ، والتي تم كشفها ، وقطعها ، وإبرامها ، والثقوب … باختصار ، فإنها تخضع لسلسلة من الإجراءات الفنية المتعلقة بنشاط النقش أكثر من تلك الخاصة بالنقش. عندها تأتي أعمال الحفر فقط ، ثم يرسم الفنان تلقائيًا ، باستخدام أدوات قطع مختلفة ، عناصر مكونة من أشكال مختلفة. ثم يقوم بتجريد اللحاء الملمع لفتح الأخاديد ، والندوب حتى يقوم بتجريب عمل الأحماض لإنتاج تأثيرات مختلفة للمادة.
وأخيرًا ، تأتي أعمال الرسم لتوليف كل هذا ، ما أسميه تقنية مختلطة على قماش ، لأن العناصر تخرج من عمل نحت النقش وتأخذ جميع الأماكن التي تعود إليها على اللوحة.
- تعددية مرجعية لتمثلات الجسد.
تتنوع مرجعيات الفنان “معول” لرسم الجسد من رسومات الكهوف الموغلة في القدم، إلى الفنون المعاصرة، فنجد أشكال ماتيس تطل من لوحاته بأيد مروحية الشكل لها اشكال أوراق النباتات، كما نرى أصداءاً لأعمال مودلياني في تطاولاتها وامتداداتها الأنيقة، وتموضع الأشخاص في الفن الإغريقي، والثنائية اللونية الذي يتميزبها حيث تجبر تقنية الحفر على اعتماد تلك الثنائيات اللونية، ونرى فينوس ويللاندروف ومبالغته في تصوير أعضائها، حبلى بكائنات العالم كلها، كذلك نجد ملامح الفن الأفريقي حاضراً و الفراعنة الأشداء ووضعية الجسد التي تحضر تعددية زمنية في صورة واحدة.
نشر عن الفنان “معول بو شايب” ما يلي”تتطور ممارسة معول بين النقش والرسم والنحت،وهي ممارسة تأسست على مفارقة تاريخية وفكاهة، تشكك في العرق المجنون للإنسانية ومعاناتها التي مردها إلى الهوس بالسفر المستمر، من خلال الشخصيات الهاربة( نرى بعضنا بعضاً)، في سرب من علامات الفرح وخيبة الأمل، المهرجان، ومأساة الوجود الإنساني، كل ذلك في تشكيل متشابك لفنون ما قبل التاريخ والعصر المعاصر”[25]
خلاصة:
لم تثن المرجعيات المتنوعة عن صياغة أسلوب الفنان الخاص، بل لعلها رجعت به إلى الأصول فمارس فنه وكأنه يقوم بالحفر على أول صخرة في فجر الإنسانية، عمد إلى الحفر على مواد ليست متداولة، متجاوزاً أناقة المواد المعاصرة.
يالها من دورة غريبة لمساكن الذاكرة، تختزل حضارات العالم في جسد، هو الجسد ذاته، بصمة قديمة تقبع في أقاصي الزمن على جدار كهف، ولوناً أو مساحة على محامل الآن، ليس تجاوزاً للزمن وإنما تعددية زمكانية للقفر في عالمنا المعاصر. وهنا لابد من التساؤل عن الخطاب الذي يوجهه العمل الخالي والمتخلي عن النسب والتناسب، والمتجاوز للأبعاد في فضاءات محدودة، وقنواته غير المرئية التي يجبرنا على عبورها، هل هي أسبقية المفهوم أم جنوح الفن؟.
يقول ريجيس دوبري” سواء كانت الصورة موحشة أو مخففة عن النفس، أو كانت مدهشة أو فاتنة، أو كانت يدوية أو آلية،ثابتة أو متحركة، بالأبيض أو بالأسود، صامتة أو صامتة، فإنها تمارس الفعل وتحث على رد الفعل، وهو الشيء الأكيد منذ آلاف السنين”[26]. وهو ما أكد عليه الفنان عندما عرض أبعاد الجسد المتحولة، عندما جعل المفهوم منطلقاً لطرح فكرة الإنسانية الكونية ومعاناتها الفرحة بأعبائها، إنها دعوة للتساؤل والتشكيك في ماهية واعتبارات وجوهر الكائن الحي، واعتبار صوره المتنامية تعدداً ودورة من دورات الحياة.
المراجع
[1]– souriau etienne : vocabulaire d’esthétique,p1002-1003.paris.
[2] – كاي نك: ما بعد الحداثية والفنون الأدائية،ص126، ترجمة نهاد صليحة،ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1999.
[3] – ليوتار (جان فرانسوا): شرح مبسط لما بعد الحداثة، مراسلات1982-1985)-1992.
[4] – ماركوس (جان لويس):jean-luis Marcos ،كاتب وناقد فرنسي للفن التشكيلي، كاتالوك معول بو شايب، مارسيليا، سبتمبر2019 منشورات دار الثقافة.
[5] – فياللا (كلود):Claud Vialla، رسام فرنسي معاصر، ولد 18 ماي 1936، “كلود فيالا” الفنان والعضو المؤسس للحركة الفنية “حوامل ومساحات” وزعيمها في السبعينيات، يقوم بالرسم على كل الحوامل والمساحات وكأنه يخترع في كل مرة تقنية بحسب نوع الحامل أو أن الحامل ذاته يفرض عليه تقنية وطريقة في التصوير، ويتميز فنه بفخامة اللون الذي يفرضه كأحد أكبر ملوني تاريخ التصوير الغربي، بهذا الكلام قدمه السفير الفرنسي “إريك شوفالييه” إلى الجمهور في صالة المركز الثقافي.
[6] -عبد الملك جمال: مسائل في الإبداع والتصور، ص165.[7 -عبد الملك جمال: مسائل في الإبداع والتصور، ص165.
[8] -بن شيخة المسكيني أم الزين: الفن يخرج عن طوره، أو جماليات الرائع من كانط إلى دريدا، ص36، سلسلة آداب الفلاسفة،ط2010، دار المعرفة للنشر، المغاربية لطباعة ونشر الكتاب.[9] – مورفولوجيا،مورفولوجيا يشير إلى علم دراسة الشكل والبنية.
[10] – تاريخانية: تعرف التاريخانية على أنها مصطلح يضم الأساليب الفنية التي تستلهم أفكارها من إعادة الأنماط التاريخية أو الحرفية. من خلال مزج عدد من الأنماط أو تنفيذ عناصر جديدة مختلفة، وبالتالي فإنها تقدم مجموعة كبيرة ومتنوعة من التصاميم الممكنة، وقد ارتبطت التاريخانية بشكل وثيق بالفيلسوف الألماني يوهان جوتفريد هردر (1744 – 1803)، وأن المرحلة التي يصلها التاريخ ما هي إلاّ تراكم للخبرات السابقة عن مضمون التقدم، أشرف صالح محمد سيد، افتتاحية العدد الرابع عشر: التّـاريخانيّة- دورية كان التاريخية- العدد الرابع عشر؛ ديسمبر 2011. ص 7.
[11 – غالاز ويز: مفهوم الجسد عند هايدغر بين الثنائية وفلسفة الكينونة، ص136 ،الجزائر، الاستغراب 2016.
[12] – التسمية لمارتن هايدغر. المجموعة الكاملة GA31.
[13] – الأميبا: كائن حي وحيد الخلية، وهي خلية صغيرة غير منتظمة الشكل، حركتها انزلاقية وبطيئة، باستخدام الأقدام الكاذبة حيث تظهر هذه الأقدام وتختفي من منطقة إلى أخرى في جسمها مسببة انزياحًا بسيطًا في كل مرة. يوسف حتّي، أحمد شفيق الخطيب. قاموس حتّي الطبي الجديد. مكتبة لبنان، الطبعة الثانية، 1990.
[14] -نانسي جان لوك: فيلسوف فرنسي معاصر ولد عام 1940، مفكر ما بعد الحداثة.
[15] -هايدغر مارتن: المجموعة الكاملة AG31.
[16] جائيل ماري: مدرسة موسيقى متاثرة بالمدرسة الفيزيولوجية 1925،1840، لها أبحاث في علاقة الجسد وخاصة اليد مع الموسيقة( البيانو).
[17] – Estamps japonaises: الرسومات اليابانية، التي ترسم المحيط الخارجي للهيكل بخط أسود وتسميه ( الخط الواضح). جان لوك نانسي، في موسوعة الجسد، المطبعة الجامعية لرين، 2011، ص84.
[18] -هيغل: جماليات الفنون وفلسفة تاريخ الفن عند هيغل، ص21، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ط1، 1992.
[19] -أبو زريق محمد: من التأسيس إلى الحداثة في الفن التشكيلي المعاصر، ص56، طبع وزارة الثقافة الأردن، عمان2003.
[20] – لوبرتون دافيد: David Le Bertonأنتروبولوجيا الجسد والحداثة، أجساد ومجتمعات، بحث في علم الاجتماع وأنتروبولوجيا الجسد، ص5، منشورات Meridien.Klincksiecieckط2. [21] — لوبرتون دافيد: David Le Berton أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، [22] – بيدة حبيب: ناقد وفنان تشكيلي تونسي، وأستاذ جامعي بالمعهد التكنولوجي للفن والهندسة المعمارية والتعمير بتونس.[23]– Souriau Etienne : vocabulaire d’esthétique, p804,805.
[24] – فرج عبد الكريم: تقنية الحفر: الموسوعة العربية، فنون الحفر والطباعة، التقانات في الفن التشكيلي،ص720، المجلد السادس.
[25] -Communique.du. presse.- Les maîtres Marseillais contemporain2-Bouchaib Maoual. Mouhamed Nabili, Omar Yassoufi. 14.11-22.12.2015- Galerie Polisémie.
[26] – دوبري ريجيس: حياة الصورة وموتها، ص11.