بول سيزان

   تعتبر دراسات وأساليب الفنانين التشكيليين، التي يؤرخ لها تاريخ الفن وقسَّم حقبها وتطوراتها ومآلاتها، منفذاً للتحدث عن دوافع هؤلاء الفنانين التي توجت بمدارس وأساليب فنية وتقنية، التي تعتبر أيضاً ثورة فنية فكرية، تجاوزت الممارسات الماضية تشكيلياً، لتضعنا أمام تساؤلات، شملت المادة واللون والشكل والأفق المعرفي والفكرة التشكيلية والرؤية الجمالية.

ترتبط الحداثة في الفن التشكيلي بالزمان والمكان والتطور الفكري، القادر على تبني فلسفة التجاوز باتجاه المستقبل في عملية رفض وتغيير دائمين، تمثلا بمغامرة البحث والتجريب، فقد ظهرت ملامح التحديث في أواخر القرن التاسع عشر وحتى الثمانينات من القرن العشرين، التي تعتبر فترة اضطراب وبحث عن على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية ، التي توجت بظهور تسميات لمدارس فنية تشكيلية مثل التعبيرية والانطباعية والتكعيبية والمستقبلية والسريالية والدادائية ثم التجريدية، التي نستطيع تسميها فترة العناوين الواضحة والتأطير والمسارات الأسلوبية ،  “والحداثة بهذا المعنى هي: حالة وتوجه فكري تسيطر عليها فكرة رئيسية، فحواها أن تاريخ تطور الفكر الإنساني، يمثل عملية استنارة مطردة، تتنامى وتسعى قدماً نحو الامتلاك الكامل والمتجدد( عبر التفسير وإعادة التفسير)لأسس الفكر وقواعده، والحداثة في هذه الحالة تتميز بخاصية الوعي بضرورة تجاوز تفاسير الماضي ومفاهيمه، والسعي الدائب نحو استمرار هذا التجاوز في المستقبل في مجالات عدة مثل العلوم والفنون والأخلاق أو غيرها من المجالات الفكرية والعلمية”[1].

  ينطبق معنى الحداثة على كل جديد قادم، وكل تراكمات التجارب ونتائجها، لما للمفهوم من نطاق واسع، يصعب تحديده، لكن غالب النقاد اتفقوا على تلك الفترة التي توجت آخر الاختراعات واحتلال الفضاء، والتقنيات الحديثة التي استفاد منها الفن بدءاً من الانطباعية، يبدأ بها سيزان، الذي يسمى( أبو الفن الحديث)، والذي فرض جوهراً آخر للفن التشكيلي وجمالية أخرى، وأسس للمنحى التجريبي في الفن،   فلقد انتهى عصر فن النهضة ومثاليته التي تعمل غالباً لصالح الفكرة الدينية، وتغلبت فنون الحداثة على فكرة الجمالية المثالية الكلاسيكية. حيث يضطر الفنان التشكيلي إلى تبريرات تخص الفكرة التشكيلية وتوافقها مع التقنيات والمواد، فعندما لجأ “سيزان” إلى تجزئة اللون وتحليله عن “فان غوغ” والبقعية، لجأ “بيكاسو” إلى تجزئة الشكل وتبسيطه إلى أشكال هندسية رغم عدم بعده عن استنباط الصورة المأخوذة من الواقع، فجاءت المرحلة التفكيكية تلتها مرحلة تركيبية خوفاً من ضياع الشكل، الذي لم يعد مطروحاً في فترة ما بعد الحداثة.

تصنف الحداثة إلى حداثات، و لاينبغي أن نتفاجأ عندما نعلم أن مفهوم الحداثة ظهر بين القرنين الخامس والسادس ، في نفس اللحظة التي بدت فيها فترة كاملة في تاريخ أوروبا وكأنها قد ولت إلى الأبد ، عندما أصبح الفكر الأوروبي مدركًا لتجربة التغيير العميق. وفي نفس الوقت أيضًا ، تحدث إتيان سوريو ظهور الكلمة اللاتينية modernus ، والتي ستؤدي إلى ظهور الصفة الفرنسية الحديثة في نهاية العصور الوسطى. بينما يحددها هيغل بالقرون الثلاثة التي سبقت عام 1800: اكتشاف “العالم الجديد” وعصر النهضة والإصلاح. بينما يحددها الفلاسفة ببزوغ عصر التنوير، ومع ذلك فالحداثات متعددة  والحداثة واحدة: فهي تحدد وعيًا جديدًا يتميز بعلاقة مختلفة بالوقت ، والحاجة إلى الانعكاسية المتزايدة حتى الآن وغير المعروفة ؛ إنه يشير إلى ولادة نظرة مستقبلية جديدة للعالم ، وصدمة تاريخية وثقافية كبيرة الحجم.


[1] – كاي نك، ما بعد الحداثة والفنون  الأدائية، ترجمة نهاد صليحة، ط2 الهيئة المصرية للكتاب1999م،ص د. المقدمة.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You cannot copy content of this page

X