- Posted by خولة قلعه جي
- 16 أغسطس 2023
المقدس في فنون سورية القديمة ق.م.
تحمل المشاهد المصورة على جدران القصور والمعابد أبعاداً تشكيلية وجمالية، لم يكن البعد التشكيلي والجمالي هاجساً لإنجازها أو ساعد على تقصي أساليب فنية أخرى، أو التفكير بتبديل الصيغ الجمالية المتفق عليها أجيالاً عديدة، هذا يفسر تداول العمل على الفكرة ذاتها، كونها مواضيع ذات تصورات جاهزة ومحددة، تهتم لمجموعة من الأفكار الكلية المسيطرة روحياً، مثل متطلبات آنية لكنها بعيدة المدى، تستعرض فيها القوة المدعمة من آلهة السماء ومصارعة الموت والخلود.
إن مشاهد الانتصار والتتويج والصيد وصور الآلهة الأم او الولائم الإلهية أو الفن الجنائزي إلخ…، تحمل في ثناياها روحاً قلقة تبحث عن الاستقرار والحماية من قبل الآلهة أو ملوك أنصاف آلهة ضد غضب الطبيعة والسحر والخوف من المجهول والقوى الخارقة التي تقف وراء هذه المظاهر، لذلك وجدت “التمائم”1، وهي عبارة عن قلائد تعلق في العنق أو على الصدر او أي مكان دفعاً للشر.كذلك وجدت الأحواض النذرية ومشاهد الأضاحي الحيوانية والبشرية أحياناً، وحسب موسوعة الأديان “امتاز الكنعانيون بتقديم الضحايا البشرية، إذ كان الآباء انفسهم يطرحون أولادهم في النار، ليشتركوا بشيء من الألوهية أو يسترضوا الله المتخضب، وكانت الضحايا البشرية أعظم الضحايا، ويقدمون غالباً أولادهم أو أحدث مولود لديهم أضحية”2.يحمل هذا القول أفكاراً لها علاقة بالديني، وهي تعتمد الرمز والعبرة المستقاة من الحدث ” الذي يحتوي شقين، الشق الأول اعتقادي يستخدم الأسطورة أداة للمعرفة والكشف والفهم، والشق الثاني طقسي يستهدف إرضاء الآلهة والتعبد لها”3.
وثق الإنسان القديم كل ماله علاقة بالطقوس الدينية رسماً وتلويناً ونحتاً ونقشاً من أجل تثبيت الطقس الأسطوري كإعجاز يفوق البشر ويعطيه صفة القداسة.
يقول “كونتنو” في كتابه عن الحضارة الفينيقية “في كل البلاد ذوات الحضارات القديمة مثل مصر وآشور وبابل وفينيقية، يكون الدين أساسياً للجماعة، يتجه إليه تفكيرهم الدائم ويكون الموحي لهم بفنونهم ونظمهم ويكون ما عداه شيئاً إضافياً، بحيث لايمكن أن ينمو عندهم شيء إلا بالتخالف مع الدين”4، يقول ألكسندر بابا دوبولو ” أن الفن مهما كانت الديانة أو الحضارة التي تنتجه كان دائماً مرتبطاً وملتصقاً بالمقدس في مستوى جوهر العقيدة”5 إذاً حياة أي إنسان في تلك الحقبة تعتبر انعكاس لمعتقده، كما تعتبر منتجاته المادية صدى للدين بما فيها الفن، فما هو المقدس هل هو الديني فقط أو الأسطورة أو التقاليد؟…
إن عبارة الفن المقدس، الفن الديني، الفن والدين، ( الفن/ الدين) أو كما ذهب هيغل في إطلاق عبارة ( دين الفن) عن بحثه في الحضارات الشرقية القديمة، حيث كان القصد الواضح من العبارة، الإشارة إلى دوام الأساليب الفنية طيلة قرون إلى ان أصبحت ثوابت وأصول، فهل للفن دين أو هل هناك مواد أو أدوات للتشكيل مقدسة؟…، أم يوجد أساليب مقدسة لممارسات تشكيلية، فراسم الأيقونة يقوم ببعض التحضيرات كالطهارة وتناول أدوات الإنجاز الفني بقداسة، لأنها سوف تنتج عملاً فنياً ذا موضوع ديني، والسؤال الذي يبرز، هل يوسم الفن بمذهب ديني معين؟… وهل الفن يوثق الأحداث الدينية أو ما سبقها؟… ترتبط هذه التعابير ” الفن ، الدين، المقدس” برباط وثيق، كونها مرادفة لبعضها وهي محتواة داخل مجال فكري واحد، ما يجعلنا نطرح السؤال عن مدى إمكانية تحديد المعنى أو المصطلح المطروح بدقة رغم تداخلهما، أو تبديله بعبارة “حضور الديني في الأعمال الفنية المصورة”، أو الديني أو الأسطوري الفني، أيضاً إلى أي مدى يتلاقى مفهوم الديني مع المقدس الذي عرضه ” إيتيان سوريو” بأنه ” المقدس: هو الذي ينتمي لعالم الوجود الأعلى مثل أي قيمة مطلقة وتحتوي على قوة أكثر من عادية. والمقدس يستطيع أن يكون أشياء ، طقوس، أمكنة وازمنة”6 أما في لسان العرب: المقدس “من قدس أي تنزيه الله عز وجَلّْ، وفي الهذيب، القدس تنزيل الله تعالى، وهو المقتبس القدوس بالمقدس، ويقال القدوس فعول من القدس وهو الطهارة والتقديس التطهير والتبريك، وتقدس أي تطهر”7
أما في موسوعة لالاند الفلسفية فالمقدس هو ” يعتبر المقدس كل ما يتعين عليه أن يكون موضوع احترام ديني من قبل جماعة من المؤمنين، فالكائنات أو الأشياء المقدسة هي تلك التي تدافع عن المحرمات وتحميها ، بينما تكون الكائنات والأشياء المدنسة هي الخاضعة لتلك المحرمات والتي لايجوز لها الاتصال بالآولى إلا بموجب عبادات وشعائر”8 أما القاموس الأنتروبولوجي فيعرق المقدس بانه صفة يطلقها المجتمع على أشياء واماكن واعمال يعتبرها واجبة الاحترام، فيقيم لها طقوساً دينية لاعتقاده باتصالها بعبارة الآلهة، أو الالهة او المعبودات فوق الطبيعة، أو لأنها ترمز إلى القيم الأساسية للمجتمع، ولهذا فهي بعيدة عن العبث والتخريب.
مما سبق نستنتج صعوبة حصر مفهوم المقدس بتعريف واحد أو داخل حقل معرفي واحد، رغم توخي الحياد في الإفصاح عن هذا المفهوم، لأنه يتجاوز ماهو محسوس إلى ماهو مجرد أو يجمع بينهما، ولاتبعد تلك التعريفات عن بعضها في اعتبار المقدس قيمة علوية تسمو وترتفع عن حياة البشر.
يقول دوركايم ” المقدس متماثل مع الديني الذي يعتبر ابتكاراً جمعياً، لذا فإنه مميز بالتعالي عن حياة الأفراد”9 قد نميل إلى هذا الرأي لأن ما تطرحه اللوحات الجدارية والأعمال الفنية لحضارات سورية القديمة قبل الميلاد ومايجاورها، من صنع للدمى الطينية الصغيرة إلى اللوحات الجدارية الضخمة، التي تمثل حياة الآلهة والملوك أو مهرجانات الأضاحي، ووجود تماثيل كثيرة جداً في المتاحف، تخص الكهنة وهي في حالة تعبد ” تماثيل المتعبدين في ماري” كذلك تمثال أورنانشي مغنية المعبد، يؤكد ذاك التماثل او التماهي. والتعالي. ونظراً لتعدد الآلهة وتعدد وظائفها، فإننا نرى مدى تسخير الطبيعة في موضوعات فنية لصالح اختصاصات الآلهة، كإله الرعد، آلهة الينبوع، إله الحبوب، إله البحر، ” كما يلاحظ أن اختصاصات الآلهة تتجاوب مع الحاجات الإنسانية خلال هذه المرحلة” 10، ونظراً لتماذج وتماهي مفهومي الديني والمقدس إلا إنهما مفهومان منفصلان، فالديني غير المقدس، ولاندعي معرفة أيهما أشمل فما يسمى فن ديني، حسب ” وجيه فانوس” هو ” الفن الذي يتناول الموضوعات الدينية” 11 ويوضح في تحديد المصطلح ” أن الدين لا ينتج فناً، إنه يقدم المادة الفنية، أما الذي يسعى إلى العمل الفني فهو الإنسان،وبالتالي هو فن إنساني مرتبط بالدين”12 فهل يمثل العمل الفني الذي يعبر عن موضوع ديني عملاً مقدساً.
غالباً ما انتجت هذه الفنون التي نراها( تصوير ، نحت، رقش) مواضيعها لغايات دينية في الأزمنة البعيدة والقريبة، وهي محاولة فرضتها تحولات مجتمعية، أدت إلى تديين الفن، الذي أدي إلى الحد من مساحته كقيمة أيديولوجية أخرى واستخدامه وسيلة ذات تأثير فعال، لتجسيد فكرة دينية واضحة الطقوس والمبادئ، حيث ينتمي كل من ( الفن والدين) إلى عالم واحد هو عالم الروحانيات، حيث الجمالية والسحرية وهما دافعين متوافقين حتماً، فالفنون القديمة تعتبر فنون ذات أساس اعتقادي ديني لأنه لم يكن هناك فرق بين ماهو ديني ودنيوي. ” لايندر أن يستخدم الفن الدين ليجعل الحقيقة الدينية أكثر محسوسية وأسهل مثالاً على الخيال”13
يرجع ذلك إلى لجوء الكنعانيين والفينيقيين والآراميين إلى الطبيعة وظواهرها لتسمية آلهتهم، فالديانة الكنعانية ترتكز على عبادة قوة النمو والتوالد، التي يعتمد عليها المجتمع الزراعي، الذي يهتم للماشية في أرض قليلة المطر، فجاءت صورة الآلهة وتماثيلها، تحتوي على عناصر قد تم عزلها وتوظيفها في سياق العمل الفني، لإقامة الدلالة على البعد الماورائي للشخص الذي يجسد صورة الآله، وبعد ذلك تتحول إلى صورة إله مقدس، فالإله “بعل” هو كناية عن قرص الشمس، حيث نراه في الصورة وفوق رأسه شمس والسوريون يسمونه “بعل شمائيم” رب السماوات.
يندرج إنشاء الصور لأغراض دينية ، ضمن الضرورات الطقوسية، وهذا ممكن في الديانات القديمة التي نرى فيها حضوراً دائماً للديني في أبسط المشاهد.
اعتبرت الأصنام الصغيرة وسائط مادية لتذكر بعبادة الرب وحضوره بشكل دائم ، فلا وجود لفن مستقل وإنما فن لخدمة إيديولوجية ما، لذلك صرح أفلاطون ” لايسمح إلا بفن لإيديولجيا معينة”. وبذلك نستطيع أن نتحدث عن ما يمكن ان يسمى سلطة الفن أو سلطة الصورة وهيمنتها، كوجه من وجوه الديني المتمثل حسياً، بواسطة الكاهن الأكبر ” سلطة الملك البابلي كانت مستمدة من إله المدينة التي كانت تفرض الضرائب باسمه، ولم يكن الملك يعد ملكاً إلا لإذا خلع الكهنة عليه سلطة مرودك”14.
- المراجع
1– التميمة: هي عبارة عن خرزة او نحوها، تعلق في العنق او على الصدر او في أي مكان مرئي دفعاً للحسد.
2- موسوعة علم الأديان: كل الأديان والمذاهب والفرق والبدع، مجموعة كبار الباحثين، بإشراف ط.ب. مفرج، مختصر الديانات السماوية، دار نشر نوبيليس، ج1، بيروت، ط2، 2005.
3- السواح( فراس)، مغامرة العقل الأولى.ص11.
4- كونتنو: كتاب الحضارة الفينيقية، ترجمة عبد الهادي شعيرة، ص103.
5- الكحلاوي (محمد)، الفن الإسلامي، المفهوم والنشأة والجماليات،ص69.
6- سوريو( ايتيان)، vocabulaire d’esthétiqueK ,france,1999,p1265.
7- لسان العرب لابن منظور،ص197.
8- موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الثالث،ص1229.
9- سليم (شكري مصطفى)، قاموس الأنتروبولوجيا، دوركايم،ص837.
10- موسوعة عالم الأديان،
11- فانوس(وجيه)، الفن الديني، مجلة النبأ، عدد60، ص422، د حسن السوداني.
12- موسوعة لالاند الفلسفية.
13- رمضان( بسطاويسي محمد)، فلسفة هيغل الجمالية،ص30.
14- موسوعة لالاند الفلسفية